فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ} (18)

أمر الله نبيه محمدا أن يصبر على ما يقول المشركون من الاستهزاء به وتكذيبه فإن سنة المولى الحليم الحكيم أن يرفع قدر النبيين الصابرين ، أن يكفيهم المستهزئين : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله . . } ، ووصاه أن يتذكر ما كان من أمر داوود عليه السلام ، ويذكر به{ . . فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ، ولقد كرم الله تعالى رسوله داوود في هذه الآيات بتسع صفات : الأولى : ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر أصول الأخلاق ، الثانية : وصف بالعبودية مضافة إلى صيغة المتكلم المعظم-والعبودية الصحيحة الجامعة للكمال الممكن- الثالثة : { ذا الأيد } صاحب القوة في الجهاد والطاعات والعبادة ، كان يصوم يوما ويفطر يوما-وهو خير الصيام-الرابعة : { إنه أواب } رجاع إلى الله جل علاه ، تواب ، كثير الإنابة والاستغفار أو كثير الصلاة والتسبيح . الخامسة : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن . . } تسبح الجبال-تسبيح مقال-تردد تسبيح داوود كما جاء في سورة سبأ : { . . يا جبال أوبي معه والطير } . قال أبو الهيثم : إذا زالت الشمس دعا ذلك الوقت[ العشي ] فتحول الظل شرقيا ، وتحولت الشمس غربية . قال الأزهري : وصلاتا العشي : هما الظهر والعصر . { والإشراق } وقت شروقها وحتى ترتفع عن الأفق الشرقي ويصفو شعاعها ، السادسة : أن المولى بقدرته كان يجمع له الطير تسبح معه { والطير محشورة كل له أواب } أي : وسخرنا الطير حال كونها محشورة ومجموعة له تجاوبه في تسبيحه ، كل من الجبال والطير رجاع إلى التسبيح ، أو رجاع إلى الله الملك المهيمن ، السابعة : قوّى الله تعالى سلطان نبيه داوود بهيبة ونصر وكثرة جند ، الثامنة : منحه الله تعالى حكمة وعلما . التاسعة : آتاه ربه القول الفصل والكلام الجزل الذي تقل ألفاظه وتكثر معانيه-الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام ، المخلص ، الذي لا يلتبس ولا يختلط بغيره . . وجوز أن يراد بفصل الخطاب : الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل . . { وآتيناه الحكمة } النبوة وكمال العلم وإتقان العمل .

وقال قتادة : أعطي داوود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر ، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داوود وأحب صيام إلى الله عز وجل صيام داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أوابا ) . . وقوله جل وعلا : { وآتيناه الحكمة } قال مجاهد يعني الفهم ، والعقل والفطنة ، وقال مرة : الحكمة والعدل ، وقال مرة : الصواب ، وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه .

مما أورد القرطبي : . . الإشراق أيضا من الشمس بعد طلوعها ، يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . فكان داوود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها . . روي عن ابن عباس أنه قال : كنت أمر بهذه الآية : { بالعشي والإشراق } ولا أدري ما هي ، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى ، قال : ( يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق ) .

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزى من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) . . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت : صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر-لفظ البخاري- وقال مسلم : وركعتي الضحى ، وأخرجه من حديث أبي الدرداء كما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة . . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار ) . . وقد أخرجه مسلم اه .