معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِۖ سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ} (44)

{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } أي فدعني والمكذبين بالقرآن ، وخل بيني وبينهم . قال الزجاج : معناه لا تشغل قلبك به ، وكله إلي فإني أكفيك أمره ، { سنستدرجهم } سنأخذهم بالعذاب ، { من حيث لا يعلمون } فعذبوا يوم بدر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِۖ سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ} (44)

35

وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . .

وهو تهديد مزلزل . . والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : خلي بيني وبين من يكذب بهذا الحديث . وذرني لحربه فأنا به كفيل !

ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث ?

إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف ! هذه النملة المضعوفة . بل هذه الهباءة المنثورة . . بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم !

فيا محمد . خل بيني وبين هذا المخلوق . واسترح أنت ومن معك من المؤمنين . فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين . الحرب معي . وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا !

أي هول مزلزل للمكذبين ! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين . . المستضعفين . . ?

ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف !

( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير . . ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان . وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون . وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير . وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب . .

وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلا ولا رحمة . والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير . وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور !

إنه سبحانه يمهل ولا يهمل . ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته . ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان . فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه . . ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِۖ سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ} (44)

الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سبباً في ذكر ما بعده ، فبعد أن استُوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصْره عليهم .

وقوله : { فذرني ومن يكذب } ونحوه يفيد تمثيلاً لحال مفعول ( ذر ) في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانةٍ بصاحببِ المؤونةِ بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول ( ذَرْ ) لأنه أقدر من المعتدَى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه ، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعوللٍ معه ومنه قوله تعالى : { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] { ذَرني ومن خلقتُ وحيداً } [ المدثر : 11 ] وقال السهيلي في « الروض الأنف » في قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] فيه تهديد ووعيد ، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر .

والواو واو المعية وما بعدها مفعول معه ، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود : اتركني معهم .

و { الحديث } يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثاً لما فيه من الإِخبار عن الله تعالى ، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات ، وقد سمي بذلك في قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة الأعراف ( 185 ) وقوله تعالى : { أفمِن هذا الحديث تعجبون وتضحكون } الآية في [ سورة النجم : 5960 ] ، وقوله : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } في سورة الواقعة ( 81 ) .

واسم الإِشارة على هذا للإِشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن .

ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإِخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق الآية } [ القلم : 42 ] .

ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى : حسبك إيقاعاً بهم أن تكل أمرهم إليّ فأنَا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بهم وتوكل عليَّ .

ويتضمن هذا تعريضاً بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام .

وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول .

وجملة { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ، بيان لمضمون { ذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث } باعتبار أن الاستدراج والإِملاء يعقبهما الانتقام فكأنه قال : سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطىء الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره .

والاستدراج : استنزال الشيء من دَرَجة إلى أخرى في مثل السُّلم ، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج ، أي التنقل في الدَّرج ، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرَج يكون صعوداً ونزولاً ، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمُسيءٍ إلى إبَّان مقدرٍ عند حلوله عقابُه ومعنى { من حيث لا يعلمون } أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك ، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حلول المصائب بهم ، ف{ مِن } ابتدائية ، و{ حيث } للمكان المجازي ، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر ، ومفعول { لا يعلمون } ضمير محذوف عائد إلى { حيث .