الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَذَرۡنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِۖ سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فذرني} هذا تهديد {ومن يكذب بهذا الحديث} يقول: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، فأنا أنفرد بهلاكهم.

{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} سنأخذهم بالعذاب من حيث يجهلون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليّ وهذا كقول القائل لآخر غيره يتوعد رجلاً: دعني وإياه، وخلّني وإياه، بمعنى: أنه من وراء مساءته...

"سَنَسْتَدْرِجِهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ " يقول جلّ ثناؤه: سنكيدهم من حيث لا يعلمون، وذلك بأن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم متعوا به بخير لهم عند الله، فيتمادوا في طغيانهم، ثم يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} فجائز أن يكون الحديث، هو القرآن، وجائز أن يكون أريد به البعث، وهو الغالب أن يكون، هو المراد.

{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال القتبي: الاستدراج، هو الإدناء من المهلكة درجة فدرجة حتى يهلك. وقيل {سنستدرجهم} أي ننعم عليهم، وننسيهم شكرها بالإملاء، وننزل بهم العذاب والهلاك أمرّ ما كان.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون}...

والاستدراج: النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

سنُقَرِّبُهم من العقوبة بحيث لا يشعرون.

ويقال: الاستدراج: أنهم كلما ازدادوا معصيةً زادهم نعمةً.

ويقال: هو الاشتغال بالنعمة مع نسيان المنعم.

ويقال: الاغترارُ بطول الإمهال.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

عن عقبة بن مسلم قال: إذا كان العبد على معصية الله ثم أعطاه الله ما يحب، فليعلم أنه في استدراج.

(وقيل): سنستدرجهم أي: نمكر بهم من حيث لا يعلمون...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يقال: ذرني وإياه، يريدون كِلْهُ إليّ، فإني أكفيكه، كأنه يقول: حسبك إيقاعاً به أن تكِل أمره إليّ وتخلي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد: حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديداً للمكذبين. استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورّطه فيه. واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقاً إلى ازدياد الكفر والمعاصي.

{مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، وهو الإنعام عليهم، لأنهم يحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وعيد ولم يكن ثم مانع... والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر، وإنما يستعمل الاستدراج في الشر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما علم بهذا أنه سبحانه المتصرف وحده بما يشاء كيف يشاء من المنع والتمكين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد من تكذيبهم له -مع إتيانه بما لا يحتمل التكذيب بوجه- من المشقة ما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، وكان علم المغموم بأن له منقذاً يخفف عنه، وكان علمه باقتداره على ما يراد منه أقر لعينه سبب عن كمال اقتداره قوله مخففاً عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى التكلم بالإفراد تنصيصاً على المراد، زيادة في تسكين القلب وشرح الصدر: {فذرني} أي اتركني على أي حالة اتفقت {ومن يكذب} أي يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أي حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين: {بهذا الحديث} أي بسببه أي خل بيني وبينهم، وكل أمرهم إليَّ ولا تكترث بشيء منه أصلاً فإني أكفيكهم لأنه لا مانع منهم، فلا تهتم بهم أصلاً.

ولما كان كأنه قيل: وماذا تعمل فيه إذا خليت بينك وبينه؟ أجابه بقوله جامعاً الضمير ليكون الواحد مهدداً من باب الأولى: {سنستدرجهم} أي فنأخذهم بعظمتنا عما قليل على غرة بوعد لا خلف فيه وندنيهم إلى الهلاك درجة درجة بواسطة من شئنا من جنودنا وبغير واسطة، بما نواتر عليهم من النعم التي توجب عليهم الشكر فيجعلونها سبباً لزيادة الكفر، فنوجب لهم النقم.

ولما كان أخذ الإنسان من مأمنه على حالة غفلة بتوريطه في أسباب الهلاك لا يحس بالهلاك إلا وهو لا يقدر على التقصي فيها بوجه قال تعالى: {من حيث} أي من جهات {لا يعلمون} أي لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات بغوائلها، وذلك أنه سبحانه يغرهم بالإمهال ولا يعاجلهم بالعقاب في وقت المخالفة كما يتفق لمن يراد به الخير فيستيقظ بل يمهلهم ويمدهم بالنعم حتى يزول عنهم خاطر التذكر فيكونوا منعمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة فيقولون: إن أفعالنا في الدنيا قبيحة ونحن لا نرى جزاءها إلا ما يسرنا" لولا يعذبنا الله بما نقول "فأنتم كاذبون في توعدنا فإنا كلما أحدثنا ما تسمونه معصية تجددت لنا نعمة، وذلك كما قادهم إلى تدريجهم وهم في غاية الرغبة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبينما هم في هذا الكرب، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث).. وهو تهديد مزلزل.. والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول [صلى الله عليه وسلم]: خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث. وذرني لحربه فأنا به كفيل! ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث؟ إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف! هذه النملة المضعوفة. بل هذه الهباءة المنثورة.. بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم! فيا محمد. خل بيني وبين هذا المخلوق. واسترح أنت ومن معك من المؤمنين. فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين. الحرب معي. وهذا المخلوق عدوي، وأنا سأتولى أمره فدعه لي، وذرني معه، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا!

أي هول مزلزل للمكذبين! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين.. المستضعفين..؟ ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف! (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين).. وإن شأن المكذبين، وأهل الأرض أجمعين، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير.. ولكنه -سبحانه- يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون. وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير. وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب.. وليس أكبر من التحذير، وكشف الاستدراج والتدبير، عدلا ولا رحمة. والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير. وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور! إنه سبحانه يمهل ولا يهمل. ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته. ويقول لرسوله [صلى الله عليه وسلم] ذرني ومن يكذب بهذا الحديث، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان. فسأملي لهم، واجعل هذه النعمة فخهم! فيطمئن رسوله، ويحذر أعداءه.. ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب!...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ثم اتجه الخطاب الإلهي إلى رسول الله عليه السلام طالبا منه أن يكل عاقبة أمر المشركين إلى سطوة الله وقدرته القاهرة، ليفعل بهم ما يشاء، ويقضي فيهم بما يريد، مبينا له أن الله تعالى إنما يعطيهم ليسلبهم، وإنما يمدهم ليحرمهم، وإنما يمهلهم ولن يهملهم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية:

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو: (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير أعلاه وبتعابير أخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً، كي يكونوا قريبين من طاعة الله، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم...