معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (3)

ثم عزاهم فقال :{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب ، { فليعلمن الله الذين صدقوا } في قولهم آمناً ، { وليعلمن الكاذبين } والله أعلم بهم قبل الاختبار . ومعنى الآية : وليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه ، وقال مقاتل : فليرين الله . وقيل : ليميزن الله كقوله : { ليميز الله الخبيث من الطيب } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (3)

( ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) . .

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر ؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه ! .

ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .

إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .

ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .

هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .

وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .

وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش غريب طريد .

وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله !

وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان !

فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان .

وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .

والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ؛ وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالا بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين : النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .

وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .

فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء :

جاء في الصحيح : " أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (3)

و { الذين من قبلهم } ، يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر ، وقرأ الجمهور «فليَعلمن » بفتح الياء واللام الثانية ، ومعنى ذلك ليظهرن عليهم ويوجدن منهم ما علمه أزلاً ، وذلك أن علمه بذلك قديم وإنما هذه عبارة عن الإيجاد بالحالة التي تضمنها العلم القديم ، والصدق والكذب على بابهما أي من صدق فعله قوله ومن كذبه ونظير هذا قول زهير : [ البسيط ]

ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا . . . ما كذب الليث عن أقرانه صدقا{[9200]}

قال النقاش ، قيل إن الإشارة ب { صدقوا } هي إلى مهجع مولى عمر بن الخطاب لأنه أول قتيل قتل من المؤمنين يوم بدر{[9201]} ، وقالت فرقة : إنما هي استعارة وإنما أراد بها الصلابة في الدين أو الاضطراب فيه وفي جهاد العدو ونحو هذا ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه{[9202]} «فليُعلِمن » بضم الياء وكسر اللام ، وهذه القراءة تحتمل ثلاثة معان أحدها أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا ، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم{[9203]} ، والثاني أن يكون المفعول الأول محذوفاً تقديره ليعلمن الناس أو العالم هؤلاء الصادقين والكاذبين ، أي يفضحهم ويشهرهم ، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة{[9204]} ، والثالث أي يكون ذلك من العلامة أي لكل طائفة علماً تشهر به{[9205]} ، فالآية على هذا ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها » وعلى كل معنى منها ففيها وعد للمؤمنين الصادقين ووعيد للكافرين ، وقرأ الزهري الأولى كقراءة الجمهور والثانية كقراءة عليّ رضي الله عنه .


[9200]:البيت من قصيدة لزهير يمدح بها هرم بن سنان. والليث هو الأسد، وأراد بكلمة (ليث) الأولى هرما، وعثر: موضع، والأقران: جمع قرن وهو الصاحب، أو المثل في الشجاعة والقتال. يقول: إن هرما في الشجاعة والقتال مثل الأسد الذي يصطاد الرجال في عثر، ولكن إذا حمي القتال، وكذب الأسد وخانته شجاعته فإن هرما يبقى على شجاعته لا يجبن ولا يفر من المعركة.
[9201]:رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة).
[9202]:وقرأ بها أيضا جعفر بن محمد.
[9203]:فالفعل (يعلم) مضارع (علم) المتعدية إلى مفعول واحد، والثاني محذوف، وتقديره كما قال ابن عطية: يعلمهم منازلهم وأعمالهم.
[9204]:المحذوف هنا هو المفعول الأول، ويظهر في تقدير ابن عطية: يعلم الناس والعالم.
[9205]:الفعل هنا متعد إلى مفعول واحد.