التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (3)

2 فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين : أوّلها جمهور المفسرين بمعنى ليظهر الصادق والكاذب أو ليتميز الصادق والكاذب نتيجة للامتحان ؛ لأن علم الله أزلي أبدي كذاته فلا يصح أن يكون قصد بالكلمة معناها الحرفي ، وهو حق .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الم 1 أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 1 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله 2 الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 3 أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون 4 من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم 5 ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه 3 إن الله لغني عن العالمين 6 والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون 7 [ 1-7 ] .

بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم المنقطعة التي رجحنا في أمثالها أنها للاسترعاء إلى خطوة ما بعدها . وهذا المطلع من المطالع القليلة التي لم يعقبها إشارة إلى القرآن مثل السورة السابقة .

وقد تضمنت الآية التالية للحروف سؤالا فيه معنى الإنكار والتعجب عما إذا كان يصح أن يظن الذين آمنوا أنهم لا يتعرضون للفتنة والامتحان ، وأنه يكفيهم أن يقولوا آمنا وذكرت الآية الثالثة في مقام الجواب بأن الله قد جرت سنته على امتحان إيمان أمثالهم من قبلهم ليتميز الصادقون من الكاذبين . واحتوت الآية الرابعة سؤالا في معنى الإنكار والتنديد معطوفا على السؤال الأول عما إذا كان يظن الذين يقترفون السيئات أن يسبقوا الله ويفلتوا منه وبيانا في معرض الجواب بأنهم إن ظنوا ذلك فإنما يكون من سوء حكمهم على الأمور وخلطهم فيه .

وقد احتوت الآيات الخامسة والسادسة والسابعة تقريرات بالنسبة لأعمال المؤمنين وأثرها .

1 – فالذين يرجون لقاء الله وثوابه لهم أن يطمئنوا فإن هذا آت لا ريب فيه . والله سميع لكل ما يقال عليم بكل ما يفعل الناس ويضمرونه .

2- والذين يجاهدون في الله لا ينفعون الله بجهادهم ؛ لأنه غني عن العالمين فليس لهم أن يمنوا بجهادهم ، وإنما ينفعون بذلك أنفسهم ويمهدون لها سبل النجاة والسعادة .

3- ولقد آلى الله على نفسه أن يتسامح في هفوات الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن يجزيهم بأحسن أعمالهم .

والآيات وإن احتوت مواضيع أو معاني متنوعة . فإنها على ما هو المتبادر منها وحدة متماسكة . ولذلك اعتبرناها وحدة وفسرناها في سياق واحد .

تعليق على الروايات الواردة في صدد

الآيات الأولى [ 1-7 ] من السورة

وما فيها من تلقينات جليلة .

ولقد روى المفسرون {[1593]} روايات عديدة في سبب نزول هذه الآيات . منها أنها نزلت بمناسبة استشهاد بعض المؤمنين في وقعة بدر وجزع أهلهم عليهم . ومنها أنها نزلت في عمار بن ياسر الذي كان يعذبه مولاه . ومنها أنها نزلت في أناس مؤمنين منعهم أهلهم من قريش من الهجرة إلى المدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليها فكتب لهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منهم الإقرار بالإسلام حتى يهاجروا . فقرروا الخروج ومقاتلة من يمنعهم وخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فقتل بعضهم ونجا بعضهم فأنزل الله فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ النحل : 110 ] . وقد سمّى من هؤلاء سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد . وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآيات والآيات الأربع التالية لها مدنية . وروى هذا البغوي وآخرون عن الشعبي من علماء التابعين وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث الصحيحة . وإن كان الطبري يروي ما يرويه منها بطريق الإسناد المتسلسل إلى الصحابي أو التابعي . ومع أن الروايتين الأولى والثالثة يمكن أن توثق رواية مدنيتها فإننا نرجح أنها مكية . وأن المناسبة التي نزلت فيها هي من نوع ما روته الرواية الثانية . وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن المكي وقد اشتد في هذه الظروف أذى الكفار وإزعاجهم للمسلمين مما يجعل الرواية الثانية هي الأوجه . وإن كنا نظن أنها أعم من حادث أذى عمار ؛ لأن هذا الأذى كان في وقت مبكر نوعا على ما تفيده الروايات وعلى ما تلهمه آيات سورة البروج وما روي في سياقها من أذى وتعذيب عمار وأبويه واستشهاد أبويه وشراء أبي بكر لعمار رضي الله عنهما مما ذكرناه في سياق تفسير هذه السورة .

ونظم الآيات والصورة التي تضمنتها أقرب إلى النظم المكي وصور العهد المكيّ منها إلى النظم المدنيّ وصور العهد المدنيّ . ولا تفهم أي حكمة في وضع آيات مدنية في أول سورة مكية بدون مناسبة نظمية وموضوعية . والآيات التي تلتها والتي يوجه الخطاب فيها إلى الكفار معطوفة عليها ولا خلاف في مكيتها . وليس لرواية مدنية الآيات إسناد صحيح .

وآية سورة النحل التي ذكرت إحدى الروايات أنها نزلت في الذين منعهم أهلهم من الهجرة إلى المدينة ثم هاجروا في آية مكية ، وقد رجحنا في سياق تفسيرها نزولها في مناسبة ارتداد جماعة من المسلمين في مكة ثم فرارهم وعودتهم إلى الإسلام وهو ما يلهمه مضمونها بكل قوة ولا نراها تنطبق على ما ذكرته الرواية المذكورة .

ومع ما للآيات من خصوصية زمنية ، فإن المسلم واجد فيها تلقينات جليلة قوية مستمرة المدى . فأمور الناس لا يمكن أن تسير على ما يشتهونه دائما . وهم معرضون للمصاعب والمشاق والأذى التي من شأنها أن تصهر النفوس وتميز قويها من ضعيفها وسليمها من زائفها وصادقها من كاذبها . والحكم على الناس وقيمهم إنما يأتي صائبا بعد مرورهم من الامتحان بالمصاعب والمشاق والأذى . فمن ثبت وصدق فهو القوي الصادق . ومن وهن وجزع فهو الضعيف الكاذب . والذين يثبتون ويصدقون في مقابلة المصاعب والمشاق ويصمدون لها بالتحمل والصبر ومجاهدة النفس إنما ينفعون أنفسهم في الدرجة الأولى ، ولن ينجو من يعمل السوء ولن يضيع عمل من آمن وعمل الصالحات .


[1593]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.