نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (3)

ولما كان التآسي من سنن الآدميين ، توقع المخاطب بهذا الأمر الخبر عن حالهم في ذلك ، فقال مؤكداً لمن يظن أن الابتلاء لا يكون ، لأن الله غني عنه فلا فائدة فيه جاهلاً بما فيه من الحكمة بإقامة الحجة على مقتضى عوائد الخلق : { ولقد } أي أحسبوا والحال أنا قد { فتنا } أي عاملنا بما لنا من العظمة معاملة المختبر { الذين } .

ولما كان التآسي بالقريب في الزمان أعظم ، أثبت الجار في قوله : { من قبلهم } أي من قبل هؤلاء الذين أرسلناك إليهم من أتباع الأنبياء حتى كان الرجل منهم يمشط لحمه بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه ، ومن رؤوسهم صاحب أكثر السورة الماضية موسى عليه الصلاة والسلام ، ففي قصته حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال له حديث الفتون وهو في مسند أبي يعلى ، ومن آخر ما ابتلى به أمر قارون وأتباعه .

ولما كان الامتحان سبباً لكشف مخبآت الإنسان بل الحيوان ، فيكرم عنده أو يهان ، وأرشد السياق إلى أن المعنى : فلنفتننهم ، نسق به قوله : { فليعلمن الله } أي الذي له الكمال كله ، بفتنة خلقه ، علماً شهودياً كما كان يعلم ذلك علماً غيبياً ، ويظهره لعباده ولو بولغ في ستره ، وعبر بالاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال التفاتاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تنبيهاً للناقصين – وهم أكثر الناس – على أنه منزه عن كل شائبة نقص ، وأكد إشارة إلى أن أكثر الناس يظن الثبات عند الابتلاء وأنه إذا أخفى عمله لا يطلع عليه أحد { الذين صدقوا } في دعواهم الإيمان ولو كانوا في أدنى مراتب الصدق ، وليعلمن الصادقين ، وهم الصابرون الدين يقولون عند البلاء { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } فيكون أحدهم عند الرخاء براً شكوراً ، وعند البلاء حراً صبوراً ، وليعلمن الذين كذبوا في دعواهم { وليعلمن الكاذبين* } أي الراسخين في الكذب الذين يعبدون الله على حرف ، فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم ، فظنوا ، فيكون لكل من الجزاء على حسب ما كشف منه البلاء ، والتعبير بالمضارع لتحقق الاختبار ، على تجدد الأعصار ، لجمعي الأخيار والأشرار ، فمن لم يجاهد نفسه عند الفتنة فيطيع في السراء والضراء كان من الكافرين فكان في جهنم { أليس في جهنم مثوى للكافرين } ومن جاهد كان من المحسنين ، والآية من الاحتباك : دل بالذين صدقوا على الذين كذبوا ، وبالكاذبين على الصادقين ، ذكر الفعل أولا دليلاً على تقدير ضده ثانياً ، والاسم ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً .