معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ} (59)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } ، قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، ( يحسبن ) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( سبقوا ) أي : فأتوا ، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . فمن قرأ بالياء يقول ( لا يحسبن الذين كفروا ) أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب ، قرأ ابن عامر .

قوله تعالى : { أنهم لا يعجزون } . بفتح الألف ، أي : لأنهم لا يعجزون ، ولا يفوتونني . وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ} (59)

55

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ

ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ؛ حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم " التقدم الفني في صناعة القانون " أن يدركوا حقيقة " الواقع " بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !

وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر ، ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !

( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ، إنهم لا يعجزون ) . .

فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق ، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم ، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم ، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .

فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض ، ويعلون كلمته في الناس ، وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ} (59)

وقوله تعالى : { ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسِبن » بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها ، و { الذين كفروا } مفعول أول ، و { سبقوا } مفعول ثان ، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون » بكسر ألف «إن » على القطع والابتداء ، و { يعجزون } معناه مفلتون ويعجزون طالبهم ، فهو ُمَعَّدى ( عجز ) بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضاً ، قال سويد : [ الوافر ]

وأعجزنا أبو ليلى طفيل*** صحيح الجلد من أثر السلاحِ

وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، كقريش في بدر وغيرهم ، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون ، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا ، وقيل المراد في الآخرة ، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تِحسبن » بكسر التاء ، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تَحسَبن » بفتح التاء من فوق وبفتح السين ، وقرأ الأعمش «ولا يَحسَب » بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسِبنّ » بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة ، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبْنَ » بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين ، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد ، ويكون { قوله الذين كفروا } مفعولاً أولاً و { سبقوا } مفعولاً ثانياً ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هم الفاعلون ، ويكون المفعول الأول مضمراً و { سبقوا } مفعول ثان ، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هو الفاعل وتضمر «أن » فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين ، قال الفارسي : ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال { أفغير الله تأمروني أعبد }{[5428]} التقدير أن أعبد .

قال القاضي أبو محمد : ونحوه قول الشاعر : [ الطويل ]

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5429]}

قال أبو علي : وقد حذفت «أن » وهي مع صلتها في موضع الفاعل ، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك : [ الطويل ]

وما راعنا إلا يسير بشرطة*** وعهدي به قيناً يفش بكير{[5430]}

وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون » بفتح الألف من «أنهم » ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون ، وقرأ الجمهور «يعْجزون » بسكون العين ، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعَجّزون » بفتح العين وشد الجيم ، وقرأ ابن محيصن «يعجزونِ » بكسر النون ومنحاها يعجِزوني بإلحاق الضمير ، قال الزجّاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر : [ الوافر ]

تراه كالثغام يعل مسكاً*** يسوء الفاليات إذا فليني{[5431]}

قال القاضي أبو محمد : البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : [ الكامل ]

ولقد علمت ولا محالة أنَّني*** للحادثات فهل تريني أجزع{[5432]} ؟

هذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب ، وقال أبو العباس المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معد يكرب ، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون » قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب .

قال القاضي أبو محمد : وذكرها الطبري بنون .


[5428]:- من الآية (64) من سورة (الزمر).
[5429]:- الشاعر هو طرفة بن العبد، والبيت من معلقته، والرواية: "ألا أيهذا اللائمي.."، ورواية "الزاجري" هي التي رواها الشنتمري، والوغى: الحرب، والمعنى: يأيها الذي تزجرني أو تلومني على الاشتراك في الحروب وشهود اللذات، هل تضمن لي الخلود إن =كففت عنها؟ يريد أن أحدا لا يضمن له الخلود في الدنيا ولهذا فإن من حقه أن يتمتع بما يريد قبل الرحيل. و(احضر) هنا يجوز فيها الرفع والنصب.
[5430]:- يروى: "وما راعني"، والشرطة هو الشرطي، والجمع: شرط، وقد نقل في الصحاح عن الأصمعي أنهم سموا شرطا لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، وقال أبو عبيدة: لأنهم أعدّوا. والقين: الحداد، وجمعه قيون، والكير: كير الحداد وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات، وأما المبني من الطين فهو الكور. وهذا البيت يذكره النحويون غير منسوب في موضوع خلافهم في الفاعل ونائبه: هل يكونانا جملة أم لا؟ فالمشهور المنع، وأجاز ذلك هشام وثعلب مطلقا، وفصل الفراء وجماعة بين الفعل القلبي والمعلق عن العمل وغيره، ودليل هشام وثعلب على الجواز هذا البيت. راجع "مغني اللبيب" لابن هشام.
[5431]:- البيت كما قال لعمرو بن معد يكرب، هكذا في سيبويه (2/ 154)، والخزانة 2/445، والضمير في (تراه) للشيب في الرأس، والثّغام بفتح الثاء المشددة: نبات إذ يبس صار = أبيض كالثلج، وبه يشبه الشيب، والعلّ والعلل هو الشرب ثانية، أو الشرب تباعا، والمعنى هنا: يُسقى المسك مرة بعد مرة، والفاليات: مخرجات القمل من الرأس، وهو مفعول به للفعل (يسوء). قال الأخفش في هذا البيت: "حذف النون الأخير لأن هذه النون وقاية للفعل وليست باسم، فأما النون الأولى فلا يجوز طرحها لأنها الاسم المضمر" هكذا في "الصحاح" عنه، وفي "الصحاح" أيضا: "وعلى هذا قرأ بعض القراء: {فبم تبشرون} فأذهب إحدى النونين استثقالا، وقال أبو حية النمري: أبالموت الذي لا بد أنّي مُلاق لا أباك تخوفيني؟ أراد: (تخوفينني) فحذف.
[5432]:- يريد: ترينني. والمعنى أنه لا يجزع أو يخاف من مصائب الأيام مع علمه بأنه معرض لها.