معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } قرأ ابن عامر { تبغون } بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي : يطلبون .

قوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

41

ثم يقفهم على مفرق الطريق . . فإنه إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية . ولا وسط بين الطرفين ولا بديل . . حكم الله يقوم في الأرض ، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس ، ومنهج الله يقود حياة البشر . . أو أنه حكم الجاهلية ، وشريعة الهوى ، ومنهج العبودية . . فأيهما يريدون ؟

( أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .

إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية - كما يصفها الله ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر ، لأنها هي عبودية البشر للبشر ، والخروج من عبودية الله ، ورفض ألوهية الله ، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . .

إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس ، ويوجد اليوم ، ويوجد غدا ، فيأخذ صفة الجاهلية ، المقابلة للإسلام ، والمناقضة للإسلام .

والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة الله - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما ، فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته ، وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية ، ويعيش في الجاهلية .

وهذا مفرق الطريق ، يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار !

ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .

( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .

وأجل ! فمن أحسن من الله حكما ؟

ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم ، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟

أيستطيع أن يقول : إنه أعلم بالناس من خالق الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إن الله - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة ، ويرسل رسوله الأخير ؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ، ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان - سبحانه - يجهل أن أحوالًا ستطرأ ، وأن حاجات ستستجد ، وأن ملابسات ستقع ؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ؟ !

ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة ، ويستبدل بها شريعة الجاهلية ، وحكم الجاهلية ؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب ، أو هوى جيب من أجيال البشر ، فوق حكم الله ، وفوق شريعة الله ؟

ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين ؟ !

الظروف ؟ الملابسات ؟ عدم رغبة الناس ؟ الخوف من الأعداء ؟ . . ألم يكن هذا كله في علم الله ؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته ، وأن يسيروا على منهجه ، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ؟

قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة ، والأوضاع المتجددة ، والاحوال المتغلبة ؟ ألم يكن ذلك في علم الله ؛ وهو يشدد هذا التشديد ، ويحذر هذا التحذير ؟

يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله ، ثم يبقون على شيء من الإسلام ؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام ؟

إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدى عنده من الاختيار ؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . .

إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . .

والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . .

إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !

وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية ، فلن يستقيم له ميزان ؛ ولن يتضح له منهج ، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح . . وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس ؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا " المسلمين " وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

{ أفحكم الجاهلية يبغون } الذي هو الميل والمداهنة في الحكم ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى . وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى . وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ، و{ يبغون } خبره ، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولا } واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم . وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون . { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي عندهم ، واللام للبيان كما في قوله تعالى : { هيت لك } أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

واختلف القراء في قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد ، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكُم » برفع الميم ، قال ابن مجاهد : وهي خطأ ، قال أبو الفتح : ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه .

وقد جاء في الشعر ، قال أبو النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدعي . . . عليَّ ذنباً كلُّه لم اصنع

برفع كلّ .

قال القاضي أبو محمد : وهكذا الرواية ، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب ، ولو نصب «كل » لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه ، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح ، التقدير يبغونه ولم أصنع ، وإنما يحذف الضمير كثيراً من الصلة كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[4574]} ، وكما تقول مررت بالذي أكرمت ، ويحذف أقل من ذلك من الصفة ، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم ، ويتجه بيته بوجهين : أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى : { أفحكم } والثاني أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة ، وذلك حرف الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكمُ » بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولاعوض من الضمير ، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة{[4575]} ، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون ؟ فلا تجعل [ يبغون ] خبراً ، بل تجعله صفة لخبر محذوف وموصوف ، ونظيره قوله تعالى : { من الذين هادوا يحرفون الكلم }{[4576]} ، تقديره : قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، ومثله قول الشاعر :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقرأ سليمان بن مهران «أفحَكَمَ » بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس ، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها ، وله نظائر{[4577]} .

وقال القاضي أبو محمد : فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون ؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات ، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير { أفحكم الجاهلية } ، وقرأ ابن عامر «تبغون » بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم . وباقي السبعة «يبغون » بالياء من تحت ، و { يبغون } معناه يطلبون ويريدون ، وقوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً } تقرير أي لا أحد أحسن منه حكماً تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله : { لقوم } من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون .


[4574]:- من الآية (41) من سورة (الفرقان).
[4575]:- قوله: "حاضرة" هو خبر المبتدأ: "وألف الاستفهام"...
[4576]:- من الآية (46) من سورة (النساء).
[4577]:- القفيز: مكيال كان يكال به قديما، ويختلف مقداره باختلاف البلاد، والإردب: مكيال معروف لأهل مصر، والكلام أصله من حديث شريف: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومصر إردبها، وعدتم من حيث بدأتم) [اللسان].
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

فَرّعت الفاء على مضمون قوله : { فإن تولّوا فاعلم } [ المائدة : 49 ] الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي ، والاستفهام إنكاري ، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة . وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ، وهم أهلُ جاهلية ، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة .

وقرأ الجمهور { يَبغون } بياء الغائب ، والضمير عائد ل { مَن } من قوله : { ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 47 ] . وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات .

والواو في قوله : { ومن أحسن من الله حكماً } واو الحال ، وهو اعتراض ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، أي لا أحسن منه حكماً . وهو خطاب للمسلمين ، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا .

وقوله : { لقوم يوقنون } اللام فيه ليست متعلّقة ب { حكماً } إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم ، ولا هي لام التّقوية لأنّ { لقوم يوقنون } ليس مفعولاً ل { حُكماً } في المعنى . فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين ، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء ، وهي الواقعة في نحو قولهم : سَقْيَاً لك ، وَجَدْعاً له ، وفي الحديث « تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي » ، وقوله تعالى : { هيهات هيهات لِما توعدون } [ المؤمنون : 36 ] { حاش لله } [ يوسف : 51 ] . وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام . ومنه قول تعالى عن زليخا { وقالت هيتَ لك } [ يوسف : 23 ] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ، إذا كان ( هيت ) اسمَ فِعْلِ مُضي بمعنى تهيّأتُ ، ومثل قوله تعالى هنا : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } . وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو { حاشَ لله } [ يوسف : 51 ] ، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين ، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم : سَقياً لك ورعياً ، ونحوهما ، وفي قوله : { هِيتَ } [ يوسف : 23 ] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ . وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها .