قوله تعالى : " أفَحُكْمَ " : الجمهور على ضمِّ الحاء ، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم ، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ .
و " حُكْمَ " مَفْعُول مقدَّم ، و " يَبْغُون " فعل وفاعل ، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى .
و " الفَاء " فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم ، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة ؟
وقرأ{[11981]} ابن وثَّاب ، والأعْرج ، وأبو رجَاء ، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ ، وفيها وجهان :
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ ، و " يَبْغُون " خبره ، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه : " يَبْغُونَهُ " حَمْلاً للخبر على الصِّلَة ، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد : " هذه القراءةُ خَطَأ " ، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة ، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ .
قال ابن جنِّي{[11982]} في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك ، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه ، وقد جَاءَ في الشِّعْر ، قال أبو النَّجْم : [ الرجز ]
قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي *** عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ{[11983]}
أي : لم أصْنَعْهُ{[11984]} .
قال ابن عطيَّة{[11985]} : وهكذا الرِّواية ، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح ؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ ، ولو نَصب " كُل " لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه ، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان ، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - حين سأله ذُو اليَديْن ، فقال : " أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ ؟ " فقال : " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " {[11986]} أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم " كُلّ " ، قالوا : ولو قال : " لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك " لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي ، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب ، وعكسها نحو : " لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك " يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم ، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ]{[11987]} .
ثُمَّ قال ابن عطيَّة{[11988]} : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة ، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ .
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ .
أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل ، كما هي في " أفَحُكْمَ " .
والثاني : أن في البيت عِوَضاً من " الهَاء " المحذُوفَة ، وهو حَرْف الإطلاَق أعني " اليَاء " في " اصنَعِي " ، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ " أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ " ، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به .
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب ، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح ، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ]{[11989]} .
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع ، ونفي الخِلاف عنها ، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر ، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ " كل " ، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار ، فأمَّا " كُل " فنحو : " كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت " ، ويقوِّيه قراءة{[11990]} ابن عَامِر : { وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى } [ النساء : 95 ] ويريد بما أشْبَه " كُلاًّ " نحو : " رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ " ، أي : انْصُرْهُ ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة ، كما أنَّ " كلاً " عامة ، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه .
قال : " وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك ، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد ، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به ، والبصريُّون يُجِيزُون : " زَيْدٌ ضَرَبْتُ " أي : ضربْتُهُ " ، وذكر القراءة .
وتعالى بعضهم فقال : " لا يجُوزُ ذلك " ، وأطلق ، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله : [ السَّريع ]
وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا *** بِالحَقِّ ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ{[11991]}
قال : " لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل ، وقطعه عَنْهُ " .
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون " يَبْغُون " ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ ، والتَّقْدير : " أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون " ، وحذفُ العَائِد هنا أكثر ، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة ، ودونَهُ من الصِّفَةِ ، ودونَهُ من الخَبَرِ ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة ، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن ، ونظَّرَهُ بقوله تعالى : { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [ النساء : 46 ] ، أي : " قومٌ يُحَرِّفُون " يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ ، ونظَّرها أيْضاً بقوله : [ الطويل ]
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ : فَمِنْهُمَا *** أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ{[11992]}
وقال الزَّمَخْشَرِي{[11993]} : وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة ، كقوله : { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ، وعن الصِّفَةِ " في النَّاس رجلان : [ رجُلٌ ] أهنْتُ ، ورجُلٌ أكرمت " أي : رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه .
وعن الحال في نحو : " مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ " .
قال أبو حيَّان{[11994]} : " إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن ، فليس كذلك لما تقدَّم [ ذكره ] ، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم " .
وقرأ الأعمش{[11995]} وقتادة : " أفَحَكَمَ " بفتح الحَاء والكاف ، ونصب الميم ، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس ؛ لأنَّ المعنى : أحُكَّامَ الجاهليَّة ، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة ، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره : أفَحُكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة .
والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على " يَبْغُونَ " بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة ، وقرأ{[11996]} هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم ، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر .
والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة .
الأول : قال مُقَاتِل{[11997]} : " كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة ، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه ، فقال بَنُو قُرَيْظَة [ يا رسُول الله إن ]{[11998]} بني النَّضِير إخْوَانُنَا ، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد ، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً ، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً ، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم ، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم ، فقال - عليه السلام - : " وإنِّي أحْكُم [ أنَّ دِمَاء القرظي ]{[11999]} وفاءٌ من دم النَّضَري ، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي ، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ " . فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا : لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ{[12000]} لَنَا ، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية .
وقيل : إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه ، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية .
والثاني : أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة ، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ، فقوله - سبحانه وتعالى - : " حُكْماً " نصب على التَّمْييزِ ، و " اللاَّم " في قوله تعالى : " لِقَوْم " فيها ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يتعلّق بنفس " حُكْماً " ؛ إذ المعنى : أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر .
والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف ، كَهِي في " سقياً لَكَ " و " هَيْتَ لَكَ " ، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي ، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه ، وهو أنَّ المعنى : " يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم " .
الثالث : أنَّها بمعنى " عِنْد " ، أي : عند [ قَوْمٍ ] ، وهذا لَيْسَ بِشَيْء . ومتعلَّقُ " يُوقِنُون " يجُوزُ أن يُرادَ ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ ، أو بالقُرْآن ، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ]{[12001]} ، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج ، فإنَّهُ قال : " يُوقِنُون " : " يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ " فإنَّهم [ هم الذين ]{[12002]} يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً ، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً .
قال القرطُبِيّ{[12003]} : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبِي نُجَيْح ، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية { أَفَحُكْم الجاهليَّة يبغُون } ، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِر ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - ، وكرهه الثَّوْري ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي ، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه ، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عليه الصلاة والسلام - لبَشِير : [ " ألَكَ ولدٌ سِوَى هذا " ؟ قال : نعم ، فقال " أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا " ، فقال : لا ، قال ]{[12004]} " فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ " ، وفي رِوَاية " إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ " .
قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز ، وقوله : " أشْهِدْ على هذا غَيْرِي " ليس إذْناً في الشَّهَادَة ، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا ؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ]{[12005]} وامتنع من الشَّهَادَة فيه ، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين ، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ]{[12006]} نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك .
فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً ، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ .