مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

ثم قال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن عامر { تبغون } بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء على المغايبة ، وقرأ السلمي { أفحكم الجاهلية } برفع الحكم على الابتداء ، وإيقاع { يبغون } خبرا وإسقاط الراجع عنه لظهوره ، وقرأ قتادة { أبحكم الجاهلية } والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية ، فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبييين حكما كأولئك الحكام .

المسألة الثانية : في الآية وجهان : الأول : قال مقاتل : كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام ، فلما بعث تحاكموا إليه ، فقالت بنو قريظة : بنو النضير إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، وكتابنا واحد ، فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر ، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فقال عليه السلام : «فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري ، ودم النضري وفاء من دم القرظي ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ، ولا جراحة » ، فغضب بنو النضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { أفحكم الجاهلية يبغون } يعني حكمهم الأول . وقيل : إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه ، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به ، فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية ، الثاني : أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى .

ثم قال تعالى : { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } اللام في قوله { لقوم يوقنون } للبيان كاللام في { هيت لك } أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ، ولا أحسن منه بيانا .