في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

41

ثم يقفهم على مفرق الطريق . . فإنه إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية . ولا وسط بين الطرفين ولا بديل . . حكم الله يقوم في الأرض ، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس ، ومنهج الله يقود حياة البشر . . أو أنه حكم الجاهلية ، وشريعة الهوى ، ومنهج العبودية . . فأيهما يريدون ؟

( أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .

إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية - كما يصفها الله ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر ، لأنها هي عبودية البشر للبشر ، والخروج من عبودية الله ، ورفض ألوهية الله ، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . .

إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس ، ويوجد اليوم ، ويوجد غدا ، فيأخذ صفة الجاهلية ، المقابلة للإسلام ، والمناقضة للإسلام .

والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة الله - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما ، فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته ، وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية ، ويعيش في الجاهلية .

وهذا مفرق الطريق ، يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار !

ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .

( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . .

وأجل ! فمن أحسن من الله حكما ؟

ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم ، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟

أيستطيع أن يقول : إنه أعلم بالناس من خالق الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إن الله - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة ، ويرسل رسوله الأخير ؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ، ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان - سبحانه - يجهل أن أحوالًا ستطرأ ، وأن حاجات ستستجد ، وأن ملابسات ستقع ؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ؟ !

ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة ، ويستبدل بها شريعة الجاهلية ، وحكم الجاهلية ؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب ، أو هوى جيب من أجيال البشر ، فوق حكم الله ، وفوق شريعة الله ؟

ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين ؟ !

الظروف ؟ الملابسات ؟ عدم رغبة الناس ؟ الخوف من الأعداء ؟ . . ألم يكن هذا كله في علم الله ؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته ، وأن يسيروا على منهجه ، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ؟

قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة ، والأوضاع المتجددة ، والاحوال المتغلبة ؟ ألم يكن ذلك في علم الله ؛ وهو يشدد هذا التشديد ، ويحذر هذا التحذير ؟

يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله ، ثم يبقون على شيء من الإسلام ؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام ؟

إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدى عنده من الاختيار ؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . .

إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . .

والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . .

إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !

وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية ، فلن يستقيم له ميزان ؛ ولن يتضح له منهج ، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح . . وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس ؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا " المسلمين " وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم . .