محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

[ 50 ] { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( 50 ) } .

{ أفحكم الجاهلية يبغون } أي : يريدون منك .

قال أبو السعود : إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم . و ( الفاء ) للعطف على مقدر يقتضيه المقام . أي : أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية . وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب . لأن التولي عن حكمه عليه الصلاة والسلام ، وطلب حكم آخر ، منكر عجيب . وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب . المراد ب { الجاهلية } إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى ، الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام ، فيكون تعبيرا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم ، يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي . وإما أهل الجاهلية ، وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى . انتهى .

{ ومن أحسن من الله حكما } أي : قضاء { لقوم يوقنون } أي : ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب . والاستفهام إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساويا له .

قال ابن كثير : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم- المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر- وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها/ الرجال بلا مستند من شريعة الله ؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ؛ وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن جنكز خان الذي وضع لهم ( الياسق ) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها . وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله . فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال الله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } أي : يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون ، { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن ، وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء . روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية . وكان طاوس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ : { أفحكم الجاهلية . . . } الآية . وروى الطبراني : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الناس إلى الله عز وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه " . ورواه البخاري{[3075]} بزيادة . انتهى كلام ابن كثير .

قال بعض مفسري الزيدية : اشتمل قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق . . . } - إلى قوله : { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ، على عشرين وجها من التأكيد في لازمة شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم التي أنزلها الله تعالى ، واختارها لأمته ، واستأثر بكثير من أسرارها فلم يطلع عليها ، وما أشد امتثال ما تضمنته ؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصا على الأئمة والحكام ؟ ولن يحصل ذلك حتى يلجم نفسه بلجام الحق ، ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق ، لهذه الجملة . لا يقال : إنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتبع أهواءهم ، فكيف نهي عما يعلم الله أنه لا يفعله ؟ قال الحاكم : ذلك مقدور له ، فيصح النهي وإن علم أنه لا يفعله . وقيل : الخطاب له والمراد غيره . كذلك لا يقال : قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } يخرج من ذلك القياس . لأن ذلك- إن جعل خطابا له عليه الصلاة والسلام- فلم يكن متعبدا بالقياس . وإن كان خطابا للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل . هكذا ذكر الحاكم . والأثر : أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد ، ومنعه آخرون . وقوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } قد يستدل به على أن الواجبات على الفور . وهو محتمل . لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت . انتهى .

وفي ( الإكليل ) : استدل به على أن تقديم العبادات أول وقتها أفضل من تأخيرها . انتهى . .

وقد روى مسلم{[3076]} عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين " .

وروى أبو داود{[3077]} والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها " .


[3075]:- أخرجه البخاري في: 87- كتاب الديات، 9- باب من طلب دم امرئ، بغير حق، حديث 2525 ونصه: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه".
[3076]:- أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث 140 (طبعتنا).
[3077]:- أخرجه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة، 9- باب في المحافظة على وقت الصلوات، حديث 426.