البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

{ أفحكم الجاهلية يبغون } هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل .

وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله .

والحكم حكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله .

وحكم بجهل فهو حكم الشيطان .

وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية .

وقرأ الجمهور : أفحكمَ بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون .

وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء .

والظاهر أن الخبر هو قوله : يبغون ، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة .

وقال ابن مجاهد : هذا خطأ .

قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى .

وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين .

وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل .

وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو .

وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في «أهذا الذي بعث الله رسولاً« وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت .

وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيداً انتهى .

فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح ، وحذفه من الصفة قليل ، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر ، أو في نادر .

وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح .

وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : { من الذين يحرفون } تقديره قوم يحرفون انتهى .

وهو توجيه ممكن .

وقرأ قتادة والأعمش : أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل : أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام .

وقرأ الجمهور : يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة .

وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير .

{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } أي لا أحد أحسن من الله حكماً .

وتقدّم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل .

وهو استفهام معناه التقرير ، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم .

واللام في : لقوم يوقنون ، للبيان فتتعلق بمحذوف أي : في هيت لك وسقياً لك أي : هذا الخطاب .

وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري .

وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك ، ويظهر لقوم يوقنون .

وقيل : اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون ، وهذا ضعيف .

وقيل : تتعلق بقوله : حكماً ، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر .

ومتعلق يوقنون محذوف تقديره : يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس .

وقيل : يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل .

وقال الزجاج : يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه ، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً .