قوله تعالى : { في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً* وقالوا مال هذا الرسول } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، { يأكل الطعام } كما نأكل نحن ، { ويمشي في الأسواق } يلتمس المعاش كما نمشي ، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة ، وكانوا يقولون له : لست أنت بملك ولا بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل ، وما قالوه فاسد ، لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له ، وشيء من ذلك لا ينافي النبوة . { لولا أنزل إليه ملك } فيصدقه ، { فيكون معه نذيراً } داعياً .
ثم يستطرد في عرض مقولاتهم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واعتراضاتهم الجاهلة على بشريته ، واقتراحاتهم المتعنتة على رسالته :
( وقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ! أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها . وقال الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا . تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك : جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعل لك قصورا ) . .
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? ما له بشرا يتصرف تصرفات البشر ? إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول ! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان ، المعروف لهم ، المألوف في حياتهم ، الذي يأكل كما يأكلون ، ويعيش كما يعيشون . . كيف يمكن أن يكون رسولا من عند الله يوحى إليه ? كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه ? وهم يرونه واحدا منهم من لحم ودم . وهم لا يوحى إليهم ، ولا يعرفون شيئا عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم ، لا يتميز في شيء عنهم .
والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة . ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة . . لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان ، وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنسانا ، واستخلف في الأرض . وهو قاصر العلم ، محدود التجربة ، ضعيف الوسيلة ، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه ، ودون هدي ينير له طريقه . وقد أودعه الاستعداد للإتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته . فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس ؛ صاحب استعداد روحي للتلقي ؛ فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون .
إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها ، الطبيعية من البعض الآخر . ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق ، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له ، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي ؛ وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولا من عند الله . يرون الملائكة أو لي بهذا وأقرب : ( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) . والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من الخصائص الفائقة ، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة .
وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر . واحد من البشر يحس إحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم . . ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق !
وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد ، لأنه بشر منهم ، يتسامى بهم رويدا رويدا ؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم ؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم . وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان ؛ ولو كان ملكا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه ؛ لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم ، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ، ولا شوق إلى تحقيق صورته !
فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشرا ليؤدي دوره على قيادة البشر . والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة . فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان !
{ وقالوا مال هذا الرسول } ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم . { يأكل الطعام } كما نأكل . { ويمشي في الأسواق } لطلب المعاش ما نمشي ، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى إنما إلهكم إله واحد } . { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } لنعلم صدقة بتصديق الملك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.