فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشِي فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ لَوۡلَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَلَكٞ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا} (7)

{ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا7 أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا8 انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا9 تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا10 }

ولما تمادوا في آيات الله وسقط مراؤهم ، شرعوا في المراء فيمن أنزلت عليه الآيات فقالوا : عجبا لهذا الذي يدعي الرسالة كيف يمكن أن نصدق أنه مبعوث ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، فرد الله تعالى إفكهم بما أرشد إليه القرآن العظيم : ) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام . . ){[2545]} .

{ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام . . }{[2546]} ثم عابوه صلى الله عليه وسلم بأنه يتردد في الأسواق وإليها يتجر ويرتزق ، وتحدوه{[2547]} أن يستنزل ملكا من السماء يصحبه حتى يعرفوا صدقه ، أو تجيئه الكنوز وتهبط عليه الأموال ، أو توهب له جنة يطعم من ثمرها ، بل ما هو إلا رجل ذو سحر ، غلب على عقله ، فدحض الله مراءهم ، وسفه أحلامهم ، وضلل سعيهم ، إذ بين عز وجل أن الذي قالوه عجيب غريب غرابة الأمثال ، ينم عن التيه والضلال ، والبعد عن مناهج الحق الكبير المتعال ، وربك كثير خيره ، واسع فضله ، لو أراد أن يجعلك من أصحاب الزخرف والمتاع لمنحك بدلا من الجنة التي اقترحوها جنات ، وأسكنك القصور المشيدات ، لكن سبقت مشيئته وقضت حكمته أن يجعلك وسطا ، لست من المقنطرين و لامن المحرومين .

[ و{ ما } استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الابتداء ، والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها . . . . . والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم{ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق }{[2548]} أنه كان يجب أن يكون ملكا ، ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق . . .


[2545]:سورة الأنبياء. من الآية 8.
[2546]:سورة الفرقان. من الآية 20.
[2547]:مما أخرج ابن اسحق وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة... والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام.. وأمية بن خلف..ونبيه ومنبه ابني الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم عليه الصلاة والسلام،فقالوا:يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك،فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك،وإن كنت تريد ملكا ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما بي مما تقولون ما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم عز وجل بيني وبينكم" قالوا: يامحمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويرجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك وإن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني إليكم بشيرا ونذيرا" فأنزل الله تعالى في قوله ذلك:{وقالوا ما لهذا الرسول..} الآيتين.
[2548]:مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش، وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته.. وفي البخاري في صفته عليه السلام:" ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق.. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق،والصفق:التبايع بالأسواق، أخرجه البخاري.