قوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا } الآية . قال الحسن وقتادة والسدي ، تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينه ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار باللسان ، دون الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار ، وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ليس هو بذلك المنعوت ، وظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه فقالوا : إنهم أهل كتاب ، وهم أعلم منا به فيرجعون عن دينهم . وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي انزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار ، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا ، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنزل ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا ) .
قوله تعالى : { بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } أوله ، سمي وجهاً لأنه أحسنه ، وأول ما يواجه الناظر فيراه .
قوله تعالى : { واكفروا آخره لعلهم يرجعون } فيشكون ويرجعون عن دينهم .
كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها ، وردها عن الهدى ، من ذلك الطريق الماكر اللئيم :
( وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . . . ) . .
وهي طريقة ماكرة لئيمة كما قلنا . فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه ، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته . . يوقعهم في بلبلة واضطراب . وبخاصة العرب الأميين ، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب . فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون ، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب إطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين . وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . .
ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة ، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى ، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين ، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة ! وبعضهم من " علماء " المسلمين !
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب ، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . وتوهين قواعدها من الأساس . والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء . وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق . والدق المتصل على " رجعيتها " ! والدعوة للتلفت منها . وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها ! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا ! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص !
وهم بعد مسلمون ! أليسوا يحملون أسماء المسلمين ؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار . وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره . . ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم . لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم !
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] {[5169]} } هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر دينهم ، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما رَدّهم{[5170]} إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية : يعني يهود ، صَلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار ، مكرًا منهم ، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
وقال العَوْفِي ، عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا . [ وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك ]{[5171]} .
عطف على { ودت طائفة } [ آل عمران : 69 ] . فالطائفة الأولى حاوَلت الإضلال بالمجاهرة ، وهذه الطائفة حاولتْه بالمخادعة : قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كَعْب بن الأشْرَف ، ومالك بن الصيف ، وغيرهما من يهود خيبر ، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى ، فقالوا لطائفة من أتباعهم : « آمِنوا بمحمد أولَ النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفُروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون مَا صرف هؤلاء عنا إلاّ ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين ، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة » ففعلوا ذلك .
وقوله : { على الذين آمنوا } يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمِنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويهاً بصدق إيمانهم . ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علماً بالغلبة عليهم . ووجهُ النهار أوله وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } [ آل عمران : 45 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت طائفة من أهل الكتاب}، كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف اليهوديان لسفلة اليهود... {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا}: يعني صدقوا بالقرآن، {وجه النهار}: أول النهار، يعني صلاة الغداة، وإذا كان العشي قولوا لهم: نظرنا في التوراة، فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: {واكفروا آخره}: يعني صلاة العصر، فلبسوا عليهم دينهم لعلهم يشكون في دينهم، فذلك قوله: {لعلهم يرجعون}: لكي يرجعوا عن دينهم إلى دينكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة من أمرت به من الإيمان وجه النهار، والكفر آخره؛
فقال بعضهم: كان ذلك أمرا منهم إياهم بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم في نبوّته، وما جاء به من عند الله وأنه حقّ، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك، وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره... عن قتادة في قوله: {آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرُهُ} فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.
وقال آخرون: بل الذي أمرت به من الإيمان: الصلاة، وحضورها معهم أوّل النهار، وترك ذلك آخره. فتأويل الكلام إذا: وقالت طائفة من أهل الكتاب، يعني من اليهود الذي يقرءون التوراة: {آمِنُوا} صدّقوا بالذي أنزل على الذين آمنوا، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه. {وَجْهَ النّهارِ} يعني أوّل النهار، وسمي أوله وجها له لأنه أحسنه، وأوّل ما يواجه الناظر فيراه منه. {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} يقول: آخر النهار... يعني به أنهم قالوا: واجحدوا ما صدّقتم به من دينهم في وجه النهار في آخر النهار. {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}: يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويدعونه. عن السديّ: {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}: لعلهم يشكون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يعني بأول أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا النهار نفسه، وذلك ما روي في القصة أن بعضهم كان يقول لبعض: إن محمدا كان على قبلتنا، وقبلته بيت المقدس، ويصلي إليها، فآمنوا أنتم به {واكفروا آخره} يعني آخر أمره، يعنون: قبلته البيت الحرام الكعبة، أي اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن، وهي الكعبة، وقيل: إن بعضهم يقول لبعض: آمنوا بمحمد في أول أمره حتى يؤمن جميع العرب، ثم اكفروا به في آخر أمره، فيقول آخرون: لم كفرتم به، ورجعتم عن دينه؟ فيقولون لهم: إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته، فحسبنا أنه هذا، فآمنا به، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن بعثه ولا وصفته، فرجعنا عن دينه، وكفرنا به، حتى يرجعوا، جميعا عن دينه، فذلك قوله: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره}...
فيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم، ويسرون، فذلك من إطلاع الله إياه. ويحتمل قوله: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار} أي أظهروا لهم الإسلام والموافقة، ولا تؤمنوا في الحقيقة...
والثاني: أن يكون الذي أنزل أول النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق وتعاهد الدين، فأمروا بالإيمان بذلك ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذكروا أنهم على ذلك. ومنه جاء في ما أخبر من تبديل من بدل من أوائلهم وتحريفهم إلا أن كانوا كذلك ليلزموهم التقليد في الأمرين، والله أعلم...
والوجه الآخر من تأويل الآية: أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره لا حقيقة بياض النهار. ثم ذلك يخرج إلى وجهين: أحدهما: أن يكون دعاؤه في أول الأمر إلى التوحيد والإيمان بالكتب المتقدمة، وهم يدعون إلى ذلك. وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم لما أخذهم البغي، وغلبهم الحسد، وخافوا على رئاستهم، وأشفقوا على ملكهم، وجزاء الشح وإظهار [كثير] مما قد كتم أوائلهم، فكذبوه في هذا، والله أعلم. والثاني: أن يكون من ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق، ثم يكفرون به ليكون الأول ذريعة لهم في الثاني أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أن عنوا له، فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فبين الله سبحانه أن نفاقهم كُشِف للمسلمين، وأن ذلك لا ينفعُهم؛ أمَّا في الدنيا فَلإِطْلاع الله نبيَّه عليه السلام والمؤمنين -عليه، وأَمَّا في الآخرة فَلِفَقْدِ إخلاصهم فيه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقيل: إنهم قالوا: نصدقه في البعض، ونكذبه في البعض؛ حتى يقول الناس: صدقوه فيما كان صادقا، وكذبوه فيما كان كاذبا فيستريبون بحاله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة، فقالوا: يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا، ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا، ثم رجعوا بالعشي، فقالوا: قد نظرنا ولست به...
الوجه الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان: الأول: أنه تعالى لما قال: {إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا} [النساء: 137] أتبعه بقوله {بشر المنافقين} [النساء: 138] وهو بمنزلة قوله {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [البقرة: 14]. الثاني: أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم {آمنوا وجه النهار} أمر بالنفاق...
الوجه الثالث: قال الأصم: قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم، لأن كثيرا مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم...
المسألة الثانية: الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا.
الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس...
المسألة الثالثة: وجه النهار هو أوله، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام "هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان: لا "وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا لولا أن أظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على باطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب...
فإن قيل: إن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ومكيدة، كما كاد هؤلاء، فماذا تقول في هؤلاء؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فإذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فإنه يترك ذلك الشيء،...
ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم. وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل.. ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة. إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من "علماء "المسلمين! هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على "رجعيتها "! والدعوة للتلفت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار. وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره.. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على {ودت طائفة} [آل عمران: 69]. فالطائفة الأولى حاوَلت الإضلال بالمجاهرة، وهذه الطائفة حاولتْه بالمخادعة:...
وقوله: {على الذين آمنوا} يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمِنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويهاً بصدق إيمانهم. ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علماً بالغلبة عليهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المراد بوجه النهار ما يقابل آخره، وهو أول النهار، وعبر عنه بالوجه؛ لأن أول النهار هو وقت إقباله، والوجه هو مظهر الإقبال، والوجه أيضا كناية عن الظهور، وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضح، بعكس آخره. وهل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو ان يبدؤوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء؟ ظاهر اللفظ ذلك،ولكن يبدو للمتأمل البصير أنهم يريدون أن يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم، ثم يكفروا من بعد ذلك، على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم؛ ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية، سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها، وهي أنهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير. فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر، وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام، كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته:
{لعلهم يرجعون}؛ فهذا التعبير يفيد بيان مقاصدهم وهو رجاء أن يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان، ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل،فإنه لا يمكن أن يرجعوا جميعا، بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوي في دينه، غير المطمئن في يقينه، ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين، فيكون التظنن فيهم، وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة، وكان وراءهما الفشل الذريع، وإنهم من بعد ذلك يطمعون أن تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم؛ وكذلك سولت لهم نفوسهم، فإن الذي يركب رأسه الشيطان توسوس له نفسه بالشر، ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية.
وإن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسي؛ فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه أن يدخل الحقائق صدقا وأجدرها باليقين؛ ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه". هي القتل؛ وذلك لقطع السبيل على الذين يدخلون في الإسلام ظاهرا، وهم يريدون إثارة الشك حول حقائقه، وليس في ذلك منافاة للحرية الدينية التي قررها الإسلام في قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...256} [البقرة] ولقد كان أولئك الذين أخذوا بذلك الطريق الخبيث لإفساد العقائد يظهرون في عصور الإسلام الوقت بعد الآخر، وهم الزنادقة، فهم كانوا في باطنهم كفارا يستترون بستار الإسلام ليفسدوا الأمر على أهل الإسلام، ويشككوا الناس في عقائدهم.
وإن الفقهاء كانوا يحذرون الناس من سمومهم التي ينفثونها، وقرر جمهورهم أن كل مرتد يستثاب إلا من عرف بالزندقة، فإنه يتخذ التوبة ستارا ليستطيع بها الكيد للإسلام وأهله، فيرد عليه في نحره، وإن ظهر منه الكفر الذي يحاول ستره يؤخذ بالنواصي والأقدام.