تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (72)

الآية 72 وقوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } قيل فيه بوجوه : قيل : قوله : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } يعني بأول أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا النهار نفسه ، وذلك ما روي في القصة أن بعضهم كان يقول لبعض : إن محمدا كان على قبلتنا ، وقبلته بيت المقدس ، ويصلي إليها ، فآمنوا أنتم به { واكفروا آخره } يعني آخر أمره ، يعنون : قبلته البيت الحرام الكعبة ، أي اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن ، وهي{[3969]} الكعبة ، وقيل : إن بعضهم يقول لبعض{[3970]} : آمنوا بمحمد في أول أمره حتى يؤمن جميع العرب ، ثم اكفروا به في آخر أمره ، [ فيقول آخرون ]{[3971]} : لم كفرتم به ، ورجعتم عن دينه ؟ فيقولون {[3972]}لهم : إنا وجدنا في التوراة بعث نبي وصفته ، فحسبنا أنه هذا ، فآمنا به ، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن بعثه ولا وصفته ، فرجعنا عن دينه ، وكفرنا به ، حتى يرجعوا ، جميعا عن دينه ، فذلك قوله : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } وقيل أيضا : إن رؤوس اليهود قالوا للسفلة : صدقوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم { وجه النهار } يعني أول النهار ، يعني صلاة الغداة ، فإذا كانت{[3973]} صلاة العصر اكفروا به ، فقولوا لهم : إن قبلة بيت المقدس كانت حقا ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ليرجعوا عن دينهم . فلا تدري كيف كانت القصة ؟ ولكن فيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ، ويسرون ، فذلك من إطلاع الله إياه .

ويحتمل قوله : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } أي أظهروا لهم الإسلام والموافقة ، ولا تؤمنوا في الحقيقة .

وقال الشيخ ، رحمه الله ، في قوله : { وقالت طائفة من أهل الكتاب /62-أ/ آمنوا بالذي أنزل على الذين } الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : حقيقة النهار ثم يتوجه وجهين :

أحدهما : أمر القبلة خاصة ، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم في ما خالفوا في ذلك ، وإن علموا أن ذلك حق ليشبهوا على الضعفة : أنه لا نزال ننتقل من دين إلى دين ومذهب إلى مذهب ، وأن من لزم الدين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة ، ولما [ لا يلزم ]{[3969]} البقاء على الثاني : وهو كقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفها منهم ، إذ ليس معنى التناسخ [ إلا اختلاف العبادات لا اختلاف الأوقات ، وذلك المعنى قائم ، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ ]{[3970]} الأحوال في كل . على أن العبادات فيها المصلحة ، ومن تعبد [ وهو ]{[3971]} عالم بالذي به الأصلح في كل وقت فله ذلك .

والثاني : أن يكون الذي [ أنزل ]{[3972]} أول النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان ، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق وتعاهد الدين ، فأمروا بالإيمان بذلك ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذكروا أنهم على ذلك . ومنه جاء في ما أخبر من تبديل من بدل من أوائلهم وتحريفهم إلا أن كانوا كذلك ليلزموهم التقليد في الأمرين ، والله أعلم . وحقه أنه إذا عرف حال الأواول لا

[ يلتزم ]{[3973]} بهم ، فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ، ألزمهم التصديق في الأمرين جميعا ، ومع ما أن في القرآن وصفا بتصديق كتبهم ، فحقهم في ما هووا مقابلة كتب أنبيائهم لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا ، وادعي عليهم ، وقد ظهر{[6]} تعنتهم بمظاهرتهم المنكرين لكتبهم المكذبين برسلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك ليعلم المتأمل عبادتهم بغيا وحسدا{[7]} كما أخبر الله تعالى عنهم .

والوجه الآخر من تأويل الآية : أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره لا حقيقة بياض النهار . ثم ذلك يخرج إلى وجهين :

أحدهما : أن يكون دعاؤه في أول الأمر إلى التوحيد والإيمان بالكتب المتقدمة ، وهم يدعون إلى ذلك . وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم لما أخذهم البغي ، وغلبهم الحسد ، وخافوا على رئاستهم ، وأشفقوا على ملكهم ، وجزاء الشح وإظهار [ كثير ]{[8]} مما قد كتم أواولهم ، فكذبوه في هذا ، والله أعلم .

والثاني{[9]} : أن يكون من ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق ، ثم يكفرون به ليكون الأول ذريعة لهم في الثاني أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أن عنوا{[10]} له ، فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما أسروا ليصير ما ظنوا حجة لهم حجة عليهم . وجملة ذلك أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول ؟ وفيم كان ؟ ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم أسرار أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون حجة له وزجرا لهم من كل أنواع التبديل في شأن رسوله ، عليه أفضل الصلوات ، بما يهتك عليهم ، فيفتضحون عند من راموا ستر أمرهم ، وتسقط رئاستهم ، والله الموفق .


[6]:- نفسه.
[7]:- لم تدرج مقدمة المصنف في ط م.
[8]:- في ط ع: الحق.
[9]:- في ط م: ليكون.
[10]:-في ط ع: نقصانا.
[3969]:من م، في الأصل: وهو.
[3970]:ساقطة من م.
[3971]:في الأصل وم: فيقلون لنا.
[3972]:في الأصل وم: فنقول.
[3973]:في الأصل وم: كان.