قوله تعالى : { وإلى مدين } ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين ، { أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان } ، أي : لا تبخسوا ، وهم كانوا يطفقون مع شركهم ، { إني أراكم بخير } ، قال ابن عباس : موسرين في نعمة . وقال مجاهد : في خصب وسعة ، فحذرهم زوال النعمة ، وغلاء السعر ، وحلول النقمة ، إن لم يتوبوا . فقال : { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } ، يحيط بكم فيهلككم .
( وإلى مدين أخاهم شعيبا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) .
إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى . وقاعدة الحياة الأولى . وقاعدة الشريعة الأولى . وقاعدة المعاملات الأولى . . القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة . .
( ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير ، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . وما أنا عليكم بحفيظ ) . .
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة - بعد قضية العقيدة والدينونة - أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة . . فقد كان أهل مدين - وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام - ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس أشياءهم ، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات . وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد ، كما تمس المروءة والشرف . كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآيبة بين شمال الجزيرة وجنوبها . ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائزة التي وصفها الله في هذه السورة .
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول . فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس . وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند إلى أصل ثابت ، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء . .
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة . . هذه هي نظرة الإسلام . وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم !
وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ؛ كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها .
فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة . . إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية ، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله ؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضيعة من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغوا في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية !
( ولا تنقصوا المكيال والميزان . إني أراكم بخير ) . .
فقد رزقكم الله رزقا حسنا ، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان . . بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ، أو غصب في الأخذ والعطاء .
( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) . .
إما في الآخرة عند الله . وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة . وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك .
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب ، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام ، قريبًا من بلاد معان ، في بلد يعرف بهم ، يقال لها " مدين " فأرسل الله إليهم شعيبا ، وكان من أشرفهم{[14857]} نسبًا . ولهذا قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، وينهاهم عن التطفيف{[14858]} في المكيال والميزان { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أي : في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } {[14859]} أي : في الدار الآخرة .
قوله : { وإلى مدين أخاهم شعيباً } إلى قوله { من إله غيره } نظير قوله : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } [ هود : 61 ] الخ .
أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر .
وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض .
ووسط بينهما الثاني : وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشياً فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد ، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان .
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم ، وهي خيانة المكيال والميزان . وقد تقدّم ذلك في سورة الأعراف . وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدْر ، لأن المكتال مسترسل مستسلم . ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيَال والميزان فعزّزه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما .
وجملة { إني أراكم بخير } تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان . والمقصود من { إني أراكم بخير } أنكم بخير . وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحقّ عليهم شكرها . والباء في { بخير } للملابسة .
والخير : حسن الحالة . ويطلق على المال كقوله : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] . والأوْلى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة . وهذا التعليل يقتضي قبْح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه . وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة .
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذاباً يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا . ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله : { عذاب يوم محيط } . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان وَاهِبِهَا .
و { محيط } وصف ل { يوم } على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.