اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ} (84)

قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة .

أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام - ، ثم صار اسماً للقبيلةِ .

وقال كثير من المفسِّرين : مَدْيَنُ اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف " أهل " ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي : أهل القرية .

واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد ، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام - : { يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان ، دعاهم إلى تركِ هذه العادة ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } .

قوله : " وَلاَ تَنْقُصُوا " : " نَقَصَ " يتعدَّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ؛ وقد يحذفُ ؛ تقولُ : نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه ، وحقَّهُ ، وهو هنا كذلك ، إذ المرادُ : ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى .

والمعنى : لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون " المِكْيَال " مفعولاً أول ، والثاني محذوفٌ ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما .

قوله تعالى : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة{[18939]} . وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ ؛ فحذَّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا{[18940]} .

{ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يحيطُ بكم فيهلككم .

قال ابنُ عبَّاسٍ : أخافُ : أي : أعلم{[18941]} .

وقال غيره : المراد الخوف ؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ .

قوله : " محيطٍ " صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوُّ ، وقوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] .

قال الزمخشري{[18942]} : إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال : لأنَّ اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه .

وزعم قومٌ : أنه جُرَّ على الجوار ؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب ، والأصلُ : عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون : التقدير : عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه . قال أبو البقاءِ : وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له ، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف .

واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامةِ . وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا ؛ كما هُو في حق سائر الأمم .

والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه ، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها .


[18939]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/397).
[18940]:انظر المصدر السابق.
[18941]:ذكره الرازي في "تفسيره" (18/33).
[18942]:ينظر: الكشاف 2/417.