معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

قوله تعالى :{ فخسفنا به وبداره الأرض } قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أزرق كلون السماء ، يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بني إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤوس بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداةً لموسى ، حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيراً فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستاً من ذهب ، وقال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى ينفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها القسم ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لا ، كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم . وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلط قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأعثته . وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله عز وجل : { فخسفنا به وبداره الأرض } { فما كان له من فئة } من جماعة ، { ينصرونه من دون الله } يمنعونه من الله ، { وما كانوا من المنتصرين } من الممتنعين مما نزل به من الخسف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

76

وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا :

( فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين ) . .

هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : ( فخسفنا به وبداره الأرض )فابتلعته وابتعلت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال .

وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري ، عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به{[22418]} ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " .

ثم رواه من حديث جرير بن زيد ، عن سالم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[22419]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش ، عن عطية{[22420]} ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله{[22421]} صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم ، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . تفرد به أحمد{[22422]} ، وإسناده حسن .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا أبو معلى بن منصور{[22423]} ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمن{[22424]} كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " {[22425]} .

وقد ذكر [ الحافظ ]{[22426]} محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك . فقال : إن الله ليعجب مني . قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب .

وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام{[22427]} واختلف في سببه ، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل ، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله ، فتقول : يا موسى ، إنك فعلت بي كذا وكذا . فلما قالت في الملأ ذلك{[22428]} لموسى عليه السلام ، أرْعِدَ من الفَرَق ، وأقبل عليها{[22429]} وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فَرَق البحر ، وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا و[ فعل ]{[22430]} كذا ، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا ، على أن أقول لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه . فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا ، وسأل الله في قارون . فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان{[22431]} ذلك .

وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشّهب ، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة{[22432]} ، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله . فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله ، ينظرون إلى ما هو فيه . فدعاه موسى عليه السلام ، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا موسى ، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجن ، فلتدعون عليّ وأدعو عليك . فخرج وخرج قارون في قومه ، فقال موسى{[22433]} : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو . فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى{[22434]} : أدعو ؟ قال : نعم . فقال موسى : اللهم ، مُر الأرض أن تطيعني{[22435]} اليوم . فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض ، خذيهم . فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : خذيهم . فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم . ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم . قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها . ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوى{[22436]} فاستوت بهم الأرض .

وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة .

وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة .

وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [ غريبة ]{[22437]} أضربنا عنها صفحًا .

وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : ما أغنى عنه مالُه ، وما جَمَعه ، ولا خدمه و [ لا ]{[22438]} حشمه . ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [ به ]{[22439]} ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه ، فلا ناصر له[ لا ]{[22440]} من نفسه ، ولا من غيره .


[22418]:- في ت : "خسف الله به".
[22419]:- صحيح البخاري برقم (5790).
[22420]:- في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
[22421]:- في ت : "النبي".
[22422]:- المسند (3/40).
[22423]:- في هـ : "أبو يعلى بن منصور" والصواب ما أثبتناه من مسند أبي يعلى.
[22424]:- في ف ، أ : "ممن".
[22425]:- مسند أبي يعلى (7/279) وقال الهيثمي في المجمع (5/126) : "فيه زياد بن عبد الله النميري وهو ضعيف ، وقد وثقه ابن حبان وقال : يخطئ".
[22426]:- زيادة من ف ، أ.
[22427]:- في ت : "صلى الله عليه وسلم".
[22428]:- في أ : "بذلك".
[22429]:- في أ : "بعد ما".
[22430]:- زيادة من ف ، أ.
[22431]:- في ف ، أ : "وكان".
[22432]:- في ت ، ف ، أ : "المصبغة".
[22433]:- في ت : "صلى الله عليه وسلم". وفي ف ، أ : "عليه السلام".
[22434]:- في ف ، أ : "قال : يا موسى".
[22435]:- في ت : "فلتطعني".
[22436]:- في أ : "اذهبوا به لا أرى".
[22437]:- زيادة من ت ، ف.
[22438]:- زيادة من ت ، ف.
[22439]:- زيادة من أ.
[22440]:- زيادة من أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

{ فخسفنا به وبداره الأرض } روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره ، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه ، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال : من سرق قطعناه ، ومن زنى غير محصن جلدناه ، ومن زنى محصنا رجمناه ، فقال قارون ولو كنت قال : ولو كنت ، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت ، فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي ، فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فقال : يا أرض خذيه إلى ركبتيه ثم قال خذيه إلى وسطه ، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه ، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه ، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مرارا فلم ترحمه ، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته ، ثم قال بنو إسرائيل : إنما فعله ليرثه ، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله . { فما كان له من فئة } أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته . { ينصرونه من دون الله } فيدفعون عنه عذابه . { وما كان من المنتصرين } الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

وروي في «الخسف » بقارون وبداره أن موسى عليه السلام لما أمضه فعل قارون به وتعديه عليه ورميه بأمر المرأة وغير ذلك من فعله به استجار الله تعالى وبكى وطلب النصرة فأوحى الله تعالى إليه لا تهتم فإني أمرت الأرض أن تطيعك في قارون وأهله وخاصته وأتباعه ، فقال موسى للأرض خذيهم فأخذت منهم إلى الركب فاستغاثواك يا موسى يا موسى ، فقال خذيهم فأخذتهم شيئاً شيئاً وهم يستغيثون به كل مرة وهو يلج إلى أن تم الخسف بهم ، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى استغاثوا بك فلم ترحمهم ، لو بي استغاثوا أو إلي تابوا لرحمتهم وكشفت ما بهم ، وقال قتادة ومالك بن دينار : روي لنا أنه يخسف به كل يوم قامة فهو يتجلجل إلى يوم القيامة . و «الفئة » الجماعة الناصرة التي يفيء إليها الإنسان الطالب للنصرة ، وقصة قارون هي بعد جوازهم اليم لأن الرواة ذكروا أنه كان ممن حفظ التوراة وكان يقرؤها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله ، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله .

والخسف : انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها ، وعكسه . يقال : خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت ، فهو يستعمل قاصراً ومتعدياً ، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال . وأما قولهم : خسفت الشمس فذلك على التشبيه . والباء في قوله { فخسفنا به } باء المصاحبة ، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره ، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها ، وتقدم قوله تعالى { أن يخسف الله بهم الأرض } في سورة النحل( 45 ) .

وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره ، وهما رجلان من سبط ( روبين ) وغير دار قارون ، فهو معجزة لموسى عليه السلام .

جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح ( وهو قارون ) ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم ، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح ( قارون ) وخيام جماعته . وقال موسى : إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب . فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلاً . وقد كان قارون معتزاً على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم ، فلذلك قال الله تعالى { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله } ، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم ، { وما كان من المنتصرين } كما كان يحسب . يقال : انتصر فلان ، إذا حصل له النصر ، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فخسفنا به} يعني: بقارون {وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} يقول الله عز وجل: لم يكن لقارون جند يمنعونه من الله عز وجل، {وما كان من المنتصرين} يقول: وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من الخسف.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فخسفنا بقارون وأهل داره. وقيل: وبداره... وقوله:"فَمَا كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ" يقول: فلم يكن له جند يرجع إليهم، ولا فئة ينصرونه لما نزل به من سخطه، بل تبرّءوا منه.

"وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ "يقول: ولا كان هو ممن ينتصر من الله إذا أحلّ به نقمته، فيمتنع لقوّته منها...

وقد بيّنا معنى الفئة فيما مضى، وأنها الجماعة من الناس، وأصلها الجماعة التي يفيء إليها الرجل عند الحاجة إليهم، للعون على العدوّ، ثم تستعمل ذلك العرب في كلّ جماعة كانت عونا للرجل وظَهْرا له...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فخسفنا به وبداره الأرض} بالبغي الذي بغى عليهم؛ أعني على موسى وأصحابه. وقوله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي، ويتقوى بذلك في دفع عذاب الله ونقمته. لذلك قال: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} أي لم تغنه في دفع عذاب الله عنه أتباعه وحواشيه، وهو كظن أولئك: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبإ: 35] وكان ظنهم ذلك.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح -عند البخاري من حديث الزهري، عن سالم- أن أباه حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"...

وقوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي: ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولا حشمه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فخسفنا} أي بما لنا من العظمة {به وبداره} أي وهي على مقدار ما ذكرنا من عظمته بأمواله وزينته، فهي أمر عظيم، تجمع خلقاً كثيراً وأثاثاً عظيماً، لئلا يقول قائل: إن الخسف به كان للرغبة في أخذ أمواله {الأرض} وهو من قوم موسى عليه الصلاة والسلام وقريب منه جداً – على ما نقله أهل الأخبار – فإياكم يا أمة هذا النبي أن تردوا ما آتاكم من الرحمة برسالته فتهلكوا وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن الأنبياء كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدى، فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون لهم أبداً، إذا تحققوا أنهم من أهل الشقا {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه ما {كان له} أي لقارون، وأكد النفي – لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون – بزيادة الجار في قوله: {من فئة} أي طائفة من الناس يكرون عليه بعد أن هالهم ما دهمه، وأصل الفئة الجماعة من الطير – كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعته إلى المكان الذي ذهبت منه {ينصرونه}.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

{فخسفنا به وبداره الأرض} أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوه وفي هذا عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالي في الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض. وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم، وأصبحت ملكا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خسف قارون بشيء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد، ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعا في ملك الغاصب، واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

لما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازَّيَّنَتْت الدنيا عنده، وكثر بها إعجابه، بغته العذاب {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد اللّه، أنزله اللّه أسفل سافلين، هو وما اغتر به، من داره وأثاثه، ومتاعه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما. ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا:

"فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين"..

هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة: "فخسفنا به وبداره الأرض "فابتلعته وابتعلت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.

وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال. وكان هذا المشهد الأخير...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله. والخسف: انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها... والباء في قوله {فخسفنا به} باء المصاحبة، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها... وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومَن ظاهَره.

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

الهداية: -بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.