السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ} (81)

ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى : { فخسفنا } أي : بما لنا من العظمة { به وبداره الأرض } روي أنه كان يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه .

قال ابن عباس : نزلت الزكاة على موسى عليه السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار ، وعن كل ألف درهم بدرهم ، وعن كل ألف شاة بشاة ، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم : إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل : طشتاً من ذهب ، وقيل : قال لها : إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه السلام خطيباً فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال له قارون : ولو كنت أنت قال : ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال : لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى عليه السلام : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم ، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى

ويناشده قارون بالله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته ، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد ، قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال : وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله ، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا ، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه السلام فإن الأنبياء عليهم السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى { فما } فتسبب عنه أنه ما { كان له } أي : لقارون ، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى : { من فئة } أي : أعوان وأصل الفئة الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتها إلى المكان الذي ذهبت منه { ينصرونه من دون الله } أي : غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك { وما كان من المنتصرين } أي : الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع .