قوله تعالى : { أولئك لم يكونوا معجزين } ، قال ابن عباس : سابقين . قال قتادة : هاربين . وقال مقاتل : فائتين . { في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء } ، يعني أنصاراً وأعواناً يحفظونهم من عذابنا ، { يضاعف لهم العذاب } ، أي : يزاد في عذابهم . قيل : يضاعف العذاب عليهم لإضلالهم الغير وإقتداء الإتباع بهم . { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } ، قال قتادة : صم عن سماع الحق فلا يسمعونه ، وما كانوا يبصرون الهدى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أخبر الله عز وجل أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا قال : { ما كانوا يستطيعون السمع } وهو طاعته ، وفى الآخرة قال : { فلا يستطيعون } ، خاشعة أبصارهم .
( لم يكونوا معجزين في الأرض ) . .
فلم يكن أمرهم معجزا لله ، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا . .
( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) . .
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله . إنما تركهم لعذاب الآخرة ، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة :
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر ؛ كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر :
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : بل كانوا تحت قهره وغلبته ، وفي قبضته وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة ، ولكن { يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، وفي الصحيحين : " إن الله ليُملي للظالم ، حتى إذا أخذَه لم يُفْلته " ؛{[14547]} ولهذا قال تعالى : { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } أي : يضاعف عليهم العذاب ، وذلك لأن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم [ من شيء ]{[14548]} ، بل كانوا صُمَّا عن سماع الحق ، عُميا عن اتباعه ، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] ؛ ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه ، وعلى كل نهي ارتكبوه ؛ ولهذا كان أصحَّ الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولََئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } .
يعني جلّ ذكره بقوبه : أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله ، يقول جلّ ثناؤه : إنهم لم يكونوا بالذين يُعْجزون ربهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم ، ولكنهم في قَبضته ومِلْكه ، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم . وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياءَ يقول : ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصار ينصرونهم من الله ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم ، وقد كانت لهم في الدنيا مَنَعة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء .
وقوله : يُضَاعَفُ لَهُمُ العَذَابُ يقول تعالى ذكره : يزاد في عذابهم ، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان .
وقوله : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فإنه اختلف في تأويله ، فقال بعضهم : ذلك وصف الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم ، وأنهم لا يسمعون الحقّ ، ولا يبصرون حُجَج الله سماع منتفع ولا إبصار مهتد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ صمّ عن الحقّ فما يسمعونه ، بكم فما ينطقون به ، عُمْي فلا يبصرونه ، ولا ينتفعون به .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ قال : ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خبرا فينتفعوا به ، ولا يبصروا خيرا فيأخذوا به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والاَخرة . أما في الدنيا فإنه قال : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وهي طاعته ، وَما كانُوا يُبْصِرُونَ . وأما في الاَخرة فإنه قال : فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً .
وقال آخرون : إنما عَني بقوله : وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياءِ آلهة الذين يصدّون عن سبيل الله . وقالوا : معنى الكلام : أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض ، يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ يعني الاَلهة أنها لم يكن لها سمع ولا بصر . هذا قول رُوي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعف سنده .
وقال آخرون : معنى ذلك : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه ، وبما كانوا يبصرون ولا يتأملون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها . قالوا : والباء كان ينبغي لها أن تدخل ، لأنه قد قال : فَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ بكذبهم في غير موضع من التنزيل أدخلت فيه الباء ، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام : لاحن بما فيك ما علمت وبما علمت ، وهذا قول قاله بعض أهل العربية .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله ابن عباس وقتادة ، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع ، ولا يبصرونه إبصار مهتد ، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين ، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله ، وقد كانت لهم أسماع وأبصار .
و { معجزين } معناه : مفلتين لا يقدر عليهم . وخص ذكر { الأرض } لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه ، لا يستطيع النفوذ منها . وقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائناً من كان .
والثاني : أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة ، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء .
ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان . و { يضاعف } فعل مستأنف وليس بصفة .
وقوله : { وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } يحتمل خمسة أوجه :
أحدها : أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به ولا يبصرون كذلك .
والثاني : أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشو الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف{[6294]} ، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم .
والثالث : أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها - على التأويل المقدم - أن تكون أولياء .
و { ما } في هذه الوجوه نافية .
والرابع : أن يكون التقدير : يضاعف لهم العذاب بما كانوا : بحذف الجار{[6295]} ، وتكون { ما } مصدرية ، وهذا قول فيه تحامل . قاله الفراء ، وقرنه بقوله : أجازيك ما صنعت بي .
والخامس : أن تكون { ما } ظرفية ، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر ، وقد أعلمت الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبداً فالعذاب ، - إذن - متماد أبداً .
وقدم { السمع } في هذه الآية على «البصر » لأن حاسته أشرف من حاسة البصر ، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء ، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك .