ثم استأنف فقال : { ومن يعمل سوءاً } ، يعني السرقة .
قوله تعالى : { أو يظلم نفسه } ، برميه البريء ، وقيل : { ومن يعمل سوءاً } أي : شركاً . ( أو يظلم نفسه ) يعني : إثماً دون الشرك .
قوله تعالى : { ثم يستغفر الله } أي : يتب إليه ويستغفره .
قوله تعالى : { يجد الله غفوراً رحيماً } ، يعرض التوبة على طعمة في هذه الآية .
وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة ، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين . يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها . وللحساب عليها والجزاء . ولقاعدة الجزاء عامة . القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد . ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم ، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما . ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليما حكيما ) . . ومن يكسب خطيئة أو إثما ، ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينًا . .
إنها آيات ثلاث تقرر المبادىء الكلية التي يعامل بها الله عباده ؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضا بها ، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء .
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه ، وباب المغفرة على سعته ؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيمًا . . ) إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب . . والذي يعمل السوء يظلم غيره . ويظلم نفسه . وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه . . وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين ؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين . هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب ! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما . .
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يعمل ذنبا ، وهو السوء ، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة الله ، { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ } يقول : ثم يتوب إلى الله بانابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه ، { يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } يقول : يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه ، رحيما به .
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } .
وقال آخرون : بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين ، الذين قال الله لهم : { ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا } وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه ، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الاَيات قبلها .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض ، فقال رجل : لقد أتى الله بني إسرائيل خيرا . فقال عبد الله : ما آتاكم الله خيرا مما أتاهم ، جعل الله الماء لكم طهورا ، وقال : و{ الّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } وقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل ، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ، فلما ولدت قتلت ولدها ، فقال ابن مغفل : ما لها ؟ لها النار ! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها ، ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } قال : فمسحت عينها ثم مضت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه ، وسعة رحمته ومغفرته ، فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا ، ثم يستغفر الله ، يجد الله غفورا رحيما ، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال .
اعتراض بتذييل بين جملة { هَأنتم هَؤلاء جادلتم عنهم } وبين جملة : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمَّت طائفة منهم أن يُضلّوك } [ النساء : 109 113 ] .
وعَمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه . وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر ، وأطلق أيضاً على ارتكاب المعاصي . وأحسنُ ما قيل في تفسير هذه الآية : أنّ عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس ، وهو الاعتداء على حقوقهم ، وأنّ ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصّة ما أمر به أو نُهيَ عنه .
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من اللَّهِ عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة ، ومعنى { يجد الله غفوراً رحيماً } يتحقّق ذلك ، فاستعير فعل { يجد } للتحقّق لأنّ فعل وَجد حقيقته الظَفَر بالشيء ومشاهدته ، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة . ومعنى { غفوراً رحيماً } شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل ، فيصير المعنى يجد الله غافراً له راحماً له ، لأنّه عامّ المغفرةِ والرحمةِ فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه ، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زَمناً ، فكانت صيغة { غفوراً رحيماً } مع { يجد } دَالَّةً على القبول من كلّ تائب بفضل الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.