قوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس : وعنه أيضاً أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } قال الضحاك و مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن تكون نيته خالصةً لله عز وجل . وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، وهو حق الجهاد . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس{ هو اجتباكم } يعني : اختاركم لدينه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ضيق ، معناه : أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجاً ، بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه . وقيل : من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم ، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا . وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات ، كقصر الصلاة في السفر ، والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة ، والإفطار بالسفر والمرض ، والصلاة قاعداً عند العجز . وهو قول الكلبي . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم ، وضعها الله عن هذه الأمة . { ملة أبيكم إبراهيم } يعني : كلمة أبيكم ، نصب بنزع حرف الصفة . وقيل : نصب على الإغراء ، أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ، وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فما وجه قوله : { ملة أبيكم } وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم . قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم ، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم مثل الوالد " { هو سماكم } يعني : إن الله تعالى سماكم { المسلمين من قبل } يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . { وفي هذا } يعني : في هذا الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن زيد ( ( هو ) ) يرجع إلى إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت ، وفي هذا الوقت ، وهو قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمة لك } { ليكون الرسول شهيداً عليكم } يوم القيامة أن قد بلغكم ، { وتكونوا } أنتم ، { شهداء على الناس } أن رسلهم قد بلغتهم ، { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله } ثقوا بالله وتوكلوا عليه . قال الحسن : تمسكوا بدين الله . وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل : معناه ليثبتكم على دينه . وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، { هو مولاكم } وليكم وناصركم وحافظكم ، { فنعم المولى ونعم النصير } الناصر لكم .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق ، يصور تكليفا ضخما ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : ( هو اجتباكم ) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !
وهو تكليف محفوف برحمة الله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : ( ملة أبيكم إبراهيم )وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) . . فالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه ، وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .
هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله :
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .
فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد .
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .
إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ؛ ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .
وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة ، المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هََذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ } .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ فقال بعضهم : معناه : وجاهدوا المشركين في سبيل الله حقّ جهاده . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ كما جاهدتم أوّل مرّة فقال عمر : من أمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس . فقال عمر : صدقت .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تخافوا في الله لومة لائم . قالوا : وذلك هو حقّ الجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَجاهِدُوا في اللّهِ حَقّ جِهادِهِ لا تخافو في الله لومة لائم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اعملوا بالحقّ حقّ عمله . وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر .
والصواب من القول في ذلك : قول من قال : عُنى به الجهاد في سبيل الله لأن المعروف من الجهاد ذلك ، وهو الأغلب على قول القائل : جاهدت في الله . وحقّ الجهاد : هو استفراغ الطاقة فيه .
وقوله : هُوَ اجْتَباكُمْ يقول : هو اختاركم لدينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله وقال ابن زيد في ذلك ، ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : هُوَ اجْتَباكُمْ قال : هو هداكم .
وقوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول تعالى ذكره : وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم به من ضيق ، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه بل وسّع عليكم ، فجعل التوبة من بعض مخرجا ، والكفّارة من بعض ، والقصاص من بعض ، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد ، عن ابن شهاب ، قال : سأل عبد الملك بن مروان عليّ بن عبد الله بن عباس عن هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الّدِين مِنْ حَرَجٍ فقال عليّ بن عبد الله : الحَرَج : الضيق ، فجعل الله الكفارات مَخْرجا من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك .
قال : أخربنا ابن وهب ، قال : ثني سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يُسْأل عن : مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الّدهين مِنْ حَرَج ، قال : ما ها هنا من هُذَيل أحد ؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما تعدّون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق . قال ابن عباس : فهو كذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس ، وذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال ابن عباس : أها هنا أحد من هذيل ؟ فقال رجل : أنا ، فقال أيضا : ما تعدّون الحرج ؟ وسائر الحديث مثله .
حدثني عمران بن بكار الكُلاعيّ ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا يحيى بن حمزة ، عن الحكم بن عبد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدّث ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : «هو الضّيقُ » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا أبو خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : أتدري ما الحرج ؟ قلت : لا أدري . قال : الضيق . وقرأ هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : من ضيق .
حدثنا عمرو بن بندق ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : هل تدري ما الحَرَج ؟ قلت لا ، قال : الضيق ، إن الله لم يضيق عليكم ، لم يجعل عليكم في الدين من حرج .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن القاسم أنه تلا هذه الاَية : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ حَرَجٍ قال : تدرون ما الحرج ؟ قال : الضيق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن ، فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربيّ . ثم دعا ابن عباس أعرابيّا ، فقال : ما الحَرَج ؟ قال : الضيق . قال : صدقت
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : من ضيق .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم ، ولكنه قد وسع عليكم حتى تَيَقّنوا محلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : هذا في هلال شهر رمضان إذا شكّ فيه الناس ، وفي الحجّ إذا شكوا في الهلال ، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليهم ، وأشباهه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما جعل في الإسلام من ضيق ، بل وسعه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق ، هو واسع ، وهو مثل قوله في الأنعام : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدِ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهْ ضَيّقا حَرَجا يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه صدره ، حتى يجعل عليه الإسلام ضيقا ، والإسلامُ واسع .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول : من ضيق ، يقول : جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيّقا .
وقوله : مِلّةَ أبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ نصب ملة بمعنى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، بل وسعه ، كملّة أبيكم فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت . وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها ، لأن الكلام قبله أمر ، فكأنه قيل : اركعوا واسجدوا والزموا ملَة أبيكم إبراهيم . ) وقوله : هُوَ سمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفِي هَذَا يقول تعالى ذكره : سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم المسلمين من قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ يقول : الله سماكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء بن ابن أبي رباح ، أنه سمع ابن عباس يقول : الله سماكم المسلمين من قبل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قَتادة : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ قال : الله سماكم المسلمين من قبل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُوَ سمّاكُمُ المُسْلمِينَ قال : الله سماكم .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ يقول : الله سماكم المسلمين .
وقال آخرون : بل معنا : إبراهيم سماكم المسلمين وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ قال : ألا ترى قول إبراهيم وَاجْعَلْنا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ قال : هذا قول إبراهيم هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ، ذُكرت بالإيمان والإسلام جميعا ، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالإيمان .
ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن ، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل ، وقد قال الله تعالى ذكره : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفي هَذَا ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله الذي لم يزل ولا يزال . وأما قوله : مِنْ قَبْلُ فإن معناه : من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله . وفي هَذَا يقول : وَفِي هَذَا الكِتابِ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وفي هذا القرآن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : مِنْ قَبْلُ قال : في الكتب كلها والذكر وفي هَذَا يعني القرآن .
وقوله : لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ يقول تعالى ذكره : اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلّغوا أممهم ما أُرسلوا به إليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قال : الله سماكم المسلمين من قبل . وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَيْكُمْ بأنه بلّغكم . وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ أنّ رسلهم قد بلغتهم .
وبه عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبيّ ، كان يقال للنبيّ : اذهب فليس عليك حرج وقال الله : ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ، وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك وقال الله لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سَلْ تُعْطَهْ وقال الله : ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبيّ ، كان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك حَرَج فقال الله : وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال : وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك وقال الله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النّاسِ وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سَلْ تُعْطَهْ وقال الله اُدْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ .
قالت فرقة : هذه آية أمر الله تعالى فيها الجهاد في سبيله وهو قتال الكفار ، وقالت فرقة : بل هي أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك ، أمر الله تعالى عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي القتال في سبيل الله{[8442]} ، وقال هبة الله وغيره : إن قوله { حق جهاده } وقوله في الأخرى ، { حق تقاته }{[8443]} [ آل عمران : 102 ] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعاً ثابتاً فيقال إنه نسخ بالتخفيف ، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق{[8444]} ، و { اجتباكم } معناه تخيركم ، وقوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } معناه من تضييق يريد في شرعة الملة ، وذلك أنها حنيفية سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما كثر عده ، والحرجة الشجر الملتف المتضايق ، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن استقام على منهاج الشرع ، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين ، وليس في الشرع أعظم حرجاً
من إلزام ثبوت{[8445]} رجل لاثنين في سبيل الله تعالى{[8446]} ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج ، وقوله { ملة } ، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء ، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كلمة{[8447]} وقيل هو كما ينصب المصدر ، وقوله { هو سماكم } ، قال ابن زيد الضمير ل { إبراهيم } والإشارة إلى قوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }{[8448]} [ البقرة : 128 ] ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى ، و { من قبل } ، معناه في الكتب القديمة { وفي هذا } ، في القرآن ، وهذه اللفظة تضعف قول من قال : الضمير ل { إبراهيم } ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف ، وقوله { ليكون الرسول شهيداً عليكم } أي بالتبليغ ، وقوله { وتكونوا شهداء على الناس } أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم ، وأسند الطبري إلى قتادة أنه قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي ، كان يقول للنبي أنت شهيد على أمتك وقيل لهذه { وتكونوا شهداء على الناس } ، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ، وكان يقول للنبي سل تعط وقيل لهذه { ادعوني استجب لكم }{[8449]} [ غافر : 60 ] أمر تعالى ب { الصلاة } المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها ، وب { الزكاة } أن تؤدي كما أنعم عليكم ، فافعلوا كذا ثم أمر ب «الاعتصام بالله » أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه ، ورفض التوكل على سواء ، و { المولى } في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه وباقي الآية بين .