بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

قوله عز وجل : { وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده } ، يعني : اعملوا لله عز وجل حق عمله ؛ ويقال : جاهدوا في طاعة الله عز وجل وطلب مرضاته ؛ وقال الحسن : { حَقَّ جهاده } أن تؤدي جميع ما أمرك الله عز وجل به ، وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه ، وأن تترك رغبة الدنيا لرهبة الآخرة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله ، فقال : أي الجهاد أفضل ؟ فقال : كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ .

ثم قال : { هُوَ اجتباكم } ، يعني : اختاركم واصطفاكم . { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ، يعني : في الإسلام من ضيق ، ولكن جعله واسعاً ولم يكلفكم مجهود الطاقة ، وإنما كلفكم دون ما تطيقون ؛ ويقال : وضع عنكم إصركم والأغلال التي كانت عليكم ؛ ويقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } وهو ما رخص في الإفطار في السفر ، والصلاة قاعداً عند العلة ؛ وقال قتادة : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم يعطها إلا نبي ، كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك من حرج ، وقال لهذه الأمة { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ؛ وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال لهذه الأمة : { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ؛ وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعط ، وقال لهذه الأمة : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } [ غافر : 60 ] .

ثم قال : { مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } ، قال الزجاج : إنما صار منصوباً ، لأن معناه اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم . قال : وجائز أن يكون وافعلوا الخير فعل أبيكم إبراهيم ؛ ويقال : معناه { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ولكن جعل لكم ملة سمحة سهلة كملة أبيكم إبراهيم . { هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ } ، يعني : الله تعالى سماكم المسلمين ؛ ويقال : إبراهيم سماكم ، أي من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ؛ ويقال : إبراهيم سماكم المسلمين يا أمة محمد ؛ والطريق الأول أصح ، لأنه قال : من قبل هذا القرآن . { وَفِى هذا } ، يعني : القرآن ، الله سماكم المسلمين في سائر الكتب من قبل هذا القرآن . وفي هذا القرآن ، { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ } ؛ يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم على أمته بأنه بلغهم الرسالة بالتصديق لهم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ؛ يعني : على سائر الأمم أن الرسل قد بلغتهم ؛ وقال مقاتل : { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } ، يعني : للناس ، يعني : للرسل على قومهم ، كقوله : وما ذبح على النصب أي المنصب .

ثم قال : { فَأقيموا الصلاة } ، يعني : أقروا بها وأتموها ، { وَآتوا الزكاة } ؛ يعني : أقروا بها وأدوها . ثم قال : { واعتصموا بالله } ، يعني : وثقوا بالله إذا فعلتم ذلك ، ويقال : معناه تمسكوا بتوحيد الله ، وهو قول لا إله إلا الله . { هُوَ مولاكم } ، أي وليكم وناصركم وحافظكم . { فَنِعْمَ المولى } ، يعني : نعم الحافظ ، { وَنِعْمَ النصير } ؛ يعني : نعم المانع لكم برحمته ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .