فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

{ اجتباكم } اختاركم . { جاهدوا في الله } جاهدوا من أجل نصرة دين الله . { حرج } ضيق ومشقة . { تفلحون } تربحون وتفوزون . { واعتصموا } ثقوا واعتضدوا واستعينوا وتأيدوا . { مولاكم } حافظكم .

{ وجاهدوا في الله حق جهاده } جاهدوا من أجل نصرة دين الله ، أو قاتلوا وليس في نيتكم إلا إعلاء كلمة الله ، واصدقوه في حملتكم على الكافرين ، ولا تتولوا مدبرين { هو اجتباكم } الله العلي العظيم الذي يختص برحمته وفضله من يشاء هو الذي اختاركم أيتها الأمة الخاتمة وكرمكم وشرفكم على سائر الأمم ، وخصكم بصفوة الرسل وخاتم النبيين ، وبالإسلام الذي هيمن على كل شرع سبقه ، ولا ينسخه دين ، { وما جعل عليكم في الدين من حرج } } لم يشرع لكم في هذه الملة المرتضاة ما فيه عنت أو مشقة ، وإنما أراد سبحانه بكم اليسر ولم يرد بكم العسر ؛ في صحيحي البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن : " بشرا ولا تنفروا ويسرا ولا تعسرا " ؛ وفي البخاري وغيره عن النبي صلوات ربنا عليه وسلامه قال : " أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة " {[2289]} ؛ { ملة أبيكم إبراهيم } قدر ابن جرير محذوفا ، فيكون التقدير : ما جعل عليكم في الدين من ضيق بل وسعة عليكم كملة أبيكم{[2290]}إبراهيم ؛ فكأن { ملة } منصوب بنزع الخافض ؛ { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } يمكن أن يكون المعنى : الله الذي اجتباكم ولم يجعل عليكم في تكاليف دينكم ما لا تطيقون هو الذي سماكم بالمسلمين ، في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن العزيز ؛ وعلى هذا الرأي مجاهد{[2291]}وغيره .

{ ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } - أي : إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا ، عدولا خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس ، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها ، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها . . {[2292]} .

{ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } إذ خصكم بهذا الفضل وتلك الخيرية ، فاعبدوه بما يصلكم بعروته الوثقى جل علاه ، وتقربوا إليه بالفريضة التي فيها الشفقة على خلق الله ؛ قال قتادة : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي : كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكان يقال للنبي : أنت شهيد على قومك ، وقال الله : { لتكونوا شهداء على الناس } وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله : { . . ادعوني استجب لكم . . ){[2293]} .

{ واعتصموا بالله هو مولاكم } اعتصموا بحجج الله تعالى وآياته القرآنية ، ودلائل قدرته الآفاقية والأنفسية ؛ وآمنوا بربكم وتقربوا إليه بما علمكم من طاعاته ، وتوكلوا عليه في أموركم ؛ فإنه يتولى المستيقنين المقيمي الصلاة المؤتين الزكاة المجاهدين في سبيل الله ما وسعهم الجهاد ، المعتصمين بحبل ربنا المتين ؛ قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات .

{ فنعم المولى ونعم النصير } ربنا أكرم ولي ، { وهو يتولى الصالحين ){[2294]}

؛ فاجعلوه عصمة لكم مما تحذرون ، لوذوا بخير ناصر لمن استيقن واتقى ، وخير معين له على من بغاه بسوء ، فالله ولي المتقين ، والمتفضل بتأييد أهل الصدق الصالحين ، مصداقا لوعده في الكتاب الحكيم : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين ){[2295]} .


[2289]:ومما روى أحمد بن حنبل عن النبي عليه السلام قوله: "ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"؛ وفي رواية أخرى عن أحمد: "هل لك في الإسلام الحنيفية"؟!.
[2290]:معلوم أن الخليل إبراهيم عليه السلام أب للعرب؛ وكل من تبع نبيا فهو منتسب إليه
[2291]:ويرى ابن أسلم وغيره أن الضمير {هو} يعود على إبراهيم عليه السلام لأنه أقرب مذكور، ولقوله تعالى حكاية عنه عليه صلوات الله وسلامه: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فقد دعا لنا من قبل، وجاءت دعوته في القرآن.
[2292]:الإحالة محذوفة **
[2293]:سورة غافر. من الآية 6.
[2294]:سورة الأعراف. من الآية 196.
[2295]:سورة الروم. من الآية47.