تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

الآية 78 : وقوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } ليس لحق الله غاية يوصل إليها . وكذلك قوله : { اتقوا الله حق تقاته }( آل عمران : 102 ) لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك ، ويتوهم منهم المجاوزة عن ذلك ؛ إذ كل ذي حد وغاية تتوهم المجاوزة فيه . فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حد وغاية . ويكون تأويل قوله : { وجاهدوا في الله حق جهاده }وقوله {[13253]} : { واتقوا الله حق تقاته }حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم كقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم }( التغابن : 16 ) فيكون هذا تفسيرا لقوله : { حق تقاته }وقوله{[13254]} : { حق جهاده } .

ثم يحتمل قوله : { وجاهدوا في الله }أي جاهدوا في أنفسكم في شهوتها وأمانيها ، أو جاهدوا أعداء الله في دفع الوسواس والمحاربة معهم .

وقوله تعالى : { هو اجتباكم }يحتمل وجهين : أحدهما : { هو اجتباكم } للإيمان والهدى والتوحيد .

( والثاني ){[13255]} : { هو اجتباكم }جنسا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس كقوله : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم البر والبحر }( الإسراء : 70 ) .

وقال عامة أهل التأويل في قوله : { اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم } أي وحدوا ربكم ؛ اجعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا . فيكون ذكر العبادة ههنا كقوله : { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله }( النساء : 136 ) كأنه قال : يا أيها الذين آمنوا وحدوا ربكم .

ثم اختلف في قوله : { يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } قال بعضهم : فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك ، وهي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فضلت سورة الحج بسجدتين على غيرها من السور . فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) ( بنحوه الموطأ 1/205 و 206 ) وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها ، فسجد فيها مرتين ، ثم قال ما ذكرنا .

وتأويله عندنا أن قوله : ( فضلت سورة الحج بسجدتين ) : السجدة{[13256]} التي هي من صلب الصلاة{[13257]} ، وسجدة التلاوة في أول السورة{[13258]} . فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما .

وأصله في وجوب سجدة التلاوة أن كل سجود في القرآن للخضوع لله فهو واجب للتلاوة ولازم له . وكل سجود كان الأمر به لحق سجود الصلاة فإنه لا تلزمه السجدة بالتلاوة{[13259]} . فالأمر بالسجود في قوله : { اركعوا واسجدوا }أمر بسجود الصلاة ، لا غير . لم يلزم تاليه السجود بالتلاوة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } يحتمل تأويله وجوها : أحدها أن عليهم معرفة وحدانية الله وألوهيته وتعاليه عن الأشياء والشركاء ، وعليهم معرفة نعمه والقيام بشكرها له والخضوع له في كل وقت وإن لم{[13260]} يبعث الرسل .

ولكنه بفضله ورحمته بعث إليهم الرسل ليكون أيسر عليهم معرفة ذلك وأهون ، والقيام بأداء ذلك أخف ، لأن معرفة الأشياء بالسماع من لسان الصدوق والعدل أيسر ، والإدراك أهون من معرفتها بالنظر والتفكر ، وهو ما قال : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا }( النساء : 83 ) .

أخبر أنه لولا فضله ورحمته في بعض الرسل لاتبعوا الشيطان إلا قليلا . والقليل الذين استثناهم الذين يتفكرون ، وينظرون ، فيعرفون بالتفكر والنظر ، وذلك لا يعرف إلا بجهد وتكلف .

فعلى ذلك قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ولكن بعث إليكم الرسل ليكون أوضح لسبيل الحق ومعرفته . وإن كان له ألا يرسل ، ويكلف ذلك بالنظر والتفكر .

والثاني : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }( في قطع ما ){[13261]} تقع لكم الحوائج وتحريم كل أنواع المطاعم والمشارب واللباس عليكم ، لكنه إذا حرم نوعا منها أباح آخر بإزائه مما يسد به حاجته ، ويزيح به علته . ولو حرم كل أنواعها كان ( ذلك ){[13262]} حرجا في الدين وضيقا .

والثالث : لم يجعل عليهم من العبادات والفرائض التي كلفهم بها والقيام بأدائها ما لا يحتمل وسعهم ولا ينبتهم ، ولا حمل عليهم أمورا شاقة خلاف ما عليه طباعهم وأمر معاشهم . ولكن كلفهم بعبادات ، احتمل بها وسعهم وبنيتهم ، وحمل عليهم أمورا غير شاقة موافقة لما عليه أمر معاشهم وطباعهم وإن بعد ، ونأى عنهم .

والرابع : أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضا وإهلاك بعضهم بعضا على ما جعل ذلك بقوم ( حين قال موسى لقومه ) {[13263]} : { فتوبوا إلى باريكم فاقتلوا أنفسكم }( البقرة : 54 ) ولو كلف ذلك كان حرجا في الدين وأمثال ذلك .

والخامس : جائز أن يكون قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي من شك وشبه ، أي قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم }وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : على{[13264]} الأمر أن الزموا ملة إبراهيم .

والثاني : أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم .

وقوله تعالى : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا }اختلف فيه . قال عامة أهل التأويل : قوله : { هم سماكم المسلمين }أي الله سماكم المسلمين ، وقال بعضهم : إبراهيم{ هو سماكم المسلمين من قبل }حين{[13265]} قال : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }( البقرة : 132 ) ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان من ولد إسماعيل ، وقد دعا له ولذريته بذلك .

وقوله تعالى : { من قبل وفي هذا }قال بعضهم{ من قبل }في الكتب المتقدمة{ وفي هذا }أي في القرآن . وقال بعضهم : { من قبل }في الأمم الذين كانوا /353-أن قبل ، لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم { وفي هذا } في قومه ، أي{[13266]} كنتم متسمين{[13267]} بهذا الاسم في الأمم الخالية كقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس }( آل عمران : 110 ) أي كنتم خير أمة من الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } قال قائلون : { عليكم } بمعنى : لكم . وذلك جائز في اللغة كقوله : { وما ذبح على النصب }( المائدة : 3 ) أي للنُّصُبِ . فعلى ذلك جائز في هذا{ عليكم } أي لكم .

ويكون تأويله : يكون الرسول لكم شهيدا بالتصديق له { وتكونوا شهداء على الناس } بالتصديق لرسول الله إذا صدقتم إياه .

وقال بعضهم : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } تأويله : يكون شهيدا عليكم إذا خالفتموه ، ولم تصدقوه ، { وتكونوا } أنتم إذا صدقتم رسولكم ، ووافقتموه { شهداء على } سائر{ الناس } إذا كذبوا رسولهم أنهم كذبوه ، وخالفوه .

وفي هذه الآية دلالة اتفاق قرن حجة على من بعدهم حين{[13268]} جعلهم شهداء على من بعدهم ومن قبلهم . وقد ذكرنا تأويل الآية في سورة البقرة{[13269]} .

وقوله تعالى : { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإذا أراد الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة ففي الأمر بإقامة الصلاة أمر بإصلاح ( ما ){[13270]} بينهم وبين ربهم ، وفي الزكاة ( أمر بإصلاح ){[13271]} ما بينهم وبين الخلق كقوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }( العنكبوت : 45 ) .

وفي حرف عبد الله بن مسعود : إن الصلاة تأمر بالعدل ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .

وقوله : { واعتصموا بالله } قال بعضهم : بدين الله ، وهو ما ذكرنا في ما تقدم ذكره من قوله{ اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير }إلى ما ذكر كأنه يقول : اعتصموا بالذي ذكر .

وأصل الاعتصام هو الالتجاء إليه ، فكأنه قال : اعتصموا به من كل ما نهى عنه من الشرور وبكل ما أمر به من الخير .

وقوله تعالى : { هو مولاكم } قال الحسن : هو مولى كل من تولاه بالطاعة . وقال بعضهم : المولى والنصير أي هو ناصركم وحافظكم { فنعم المولى ونعم النصير }المانع والنصير المنتصر : ينتصر لهم من أعدائهم ، ويمنع عنهم الأعداء .

وجائز أن يكون قوله : { هو مولاكم } أي ربكم وسيدكم كما يقال . المولى العبد ، هذا مولاه وسيده ، والله أعلم .

ويكون في قوله : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } أنه قد بلغكم { وتكونوا شهداء على الناس } بأن الرسول قد بلغكم .

قال أبو عوسجة : { ما قدروا الله حق قدره } ( الحج : 74 ) أي ما عرفوا الله حق معرفته . يقال في الكلام : ما قدرتك حق قدرك ، أي ما عرفتك ، وقالوا : الحرج الضيق{[13272]} في هذا ، وفي غير هذا الموضع قيل : هو شك في قوله : { فلا يكن في صدرك حرج منه } ( الأعراف : 2 ) أي شك . والضيق إنما يكون من الشك إذا شك في شيء ضاق صدره منه .

قال أبو معاذ : وأصل الحرج في كلام العرب : شجر من شوك ملتف ، والواحدة حرجة ، منه حرجة سلم ، وقوله : { هو اجتباكم }أي اختاركم . وفي حرف ابن مسعود وأبي : هو اجتباكم ، وسماكم المسلمين من قبل . وهذا يؤيد تأويل من يقول : هو سماكم المسلمين ، أي الله سماكم .

وقال بعضهم في قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } قال : لم يفرض على هذه الأمة شيئا إلا جعل فيه رخصة لهم عند الاضطرار مثل التيمم إذا لم تجد ماء ، ( وأن ){[13273]} تصلي قاعدا أو مضطجعا في المرض ، وتفطر إذا كنت مريضا . في نحو هذا ليست فريضة إلا فيها رخصة ، ولم يكن من قبل ذلك ، وهو قول مقاتل بن حبان .

وقال قتادة : قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ضيق . قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا ، لم يعطها إلا نبي : كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله لهذه الأمة { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكان يقال للنبي : أنت شهيد على قومك ، وقال الله لهذه الأمة : { وتكونوا شهداء على الناس } وكان يقول للنبي : سل تعطه ، وقال الله لهذه{[13274]} الأمة { ادعوني أستجب لكم } ( غافر : 60 ) .

وقال بعضهم : في قوله : { اركعوا واسجدوا }أي صلوا لله كقوله : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون }( المرسلات : 48 ) يقول : صلوا لا يصلون .

وقال قتادة : { اركعوا واسجدوا }قال : لا صلاة إلا بركوع ، وإن أقوما أحدثوا بدعا ، يسجد أحدهم مئة سجدة لا يركع فيهن . وكان يقال : مما أحدث الناس رفع الأيدي في الدعاء والأصوات عند المسالة والاختصار في السجود . وقال أبو هريرة : لا يصلح سجود إلا بركوع . والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .


[13253]:في الأصل وم: و.
[13254]:في الأصل وم: و.
[13255]:في الأصل وم: أو.
[13256]:ساقطة من م.
[13257]:المقصود بها الآية: 77.
[13258]:المقصود بها الآية: 18.
[13259]:في الأصل وم: للتلاوة.
[13260]:ساقطة من الأصل وم.
[13261]:في الأصل: قطع ما لم، في م:قطع ما.
[13262]:ساقطة من الأصل وم.
[13263]:في الأصل وم: حيث قالوا لهم.
[13264]:أدرج قبلها في الأصل وم: إن.
[13265]:في الأصل وم: حيث.
[13266]:من م،في الأصل: أن.
[13267]:في الأصل وم: متسمون.
[13268]:في الأصل وم: حيث.
[13269]:الآية: 84.
[13270]:من م ساقطة من الأصل.
[13271]:في الأصل وم: إصلاح.
[13272]:في الأصل وم الضعيف.
[13273]:في الأصل وم: و.
[13274]:من م، ساقطة من الأصل.