الآية 78 : وقوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } ليس لحق الله غاية يوصل إليها . وكذلك قوله : { اتقوا الله حق تقاته }( آل عمران : 102 ) لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك ، ويتوهم منهم المجاوزة عن ذلك ؛ إذ كل ذي حد وغاية تتوهم المجاوزة فيه . فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حد وغاية . ويكون تأويل قوله : { وجاهدوا في الله حق جهاده }وقوله {[13253]} : { واتقوا الله حق تقاته }حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم كقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم }( التغابن : 16 ) فيكون هذا تفسيرا لقوله : { حق تقاته }وقوله{[13254]} : { حق جهاده } .
ثم يحتمل قوله : { وجاهدوا في الله }أي جاهدوا في أنفسكم في شهوتها وأمانيها ، أو جاهدوا أعداء الله في دفع الوسواس والمحاربة معهم .
وقوله تعالى : { هو اجتباكم }يحتمل وجهين : أحدهما : { هو اجتباكم } للإيمان والهدى والتوحيد .
( والثاني ){[13255]} : { هو اجتباكم }جنسا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس كقوله : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم البر والبحر }( الإسراء : 70 ) .
وقال عامة أهل التأويل في قوله : { اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم } أي وحدوا ربكم ؛ اجعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا . فيكون ذكر العبادة ههنا كقوله : { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله }( النساء : 136 ) كأنه قال : يا أيها الذين آمنوا وحدوا ربكم .
ثم اختلف في قوله : { يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } قال بعضهم : فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك ، وهي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فضلت سورة الحج بسجدتين على غيرها من السور . فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) ( بنحوه الموطأ 1/205 و 206 ) وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها ، فسجد فيها مرتين ، ثم قال ما ذكرنا .
وتأويله عندنا أن قوله : ( فضلت سورة الحج بسجدتين ) : السجدة{[13256]} التي هي من صلب الصلاة{[13257]} ، وسجدة التلاوة في أول السورة{[13258]} . فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما .
وأصله في وجوب سجدة التلاوة أن كل سجود في القرآن للخضوع لله فهو واجب للتلاوة ولازم له . وكل سجود كان الأمر به لحق سجود الصلاة فإنه لا تلزمه السجدة بالتلاوة{[13259]} . فالأمر بالسجود في قوله : { اركعوا واسجدوا }أمر بسجود الصلاة ، لا غير . لم يلزم تاليه السجود بالتلاوة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } يحتمل تأويله وجوها : أحدها أن عليهم معرفة وحدانية الله وألوهيته وتعاليه عن الأشياء والشركاء ، وعليهم معرفة نعمه والقيام بشكرها له والخضوع له في كل وقت وإن لم{[13260]} يبعث الرسل .
ولكنه بفضله ورحمته بعث إليهم الرسل ليكون أيسر عليهم معرفة ذلك وأهون ، والقيام بأداء ذلك أخف ، لأن معرفة الأشياء بالسماع من لسان الصدوق والعدل أيسر ، والإدراك أهون من معرفتها بالنظر والتفكر ، وهو ما قال : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا }( النساء : 83 ) .
أخبر أنه لولا فضله ورحمته في بعض الرسل لاتبعوا الشيطان إلا قليلا . والقليل الذين استثناهم الذين يتفكرون ، وينظرون ، فيعرفون بالتفكر والنظر ، وذلك لا يعرف إلا بجهد وتكلف .
فعلى ذلك قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ولكن بعث إليكم الرسل ليكون أوضح لسبيل الحق ومعرفته . وإن كان له ألا يرسل ، ويكلف ذلك بالنظر والتفكر .
والثاني : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }( في قطع ما ){[13261]} تقع لكم الحوائج وتحريم كل أنواع المطاعم والمشارب واللباس عليكم ، لكنه إذا حرم نوعا منها أباح آخر بإزائه مما يسد به حاجته ، ويزيح به علته . ولو حرم كل أنواعها كان ( ذلك ){[13262]} حرجا في الدين وضيقا .
والثالث : لم يجعل عليهم من العبادات والفرائض التي كلفهم بها والقيام بأدائها ما لا يحتمل وسعهم ولا ينبتهم ، ولا حمل عليهم أمورا شاقة خلاف ما عليه طباعهم وأمر معاشهم . ولكن كلفهم بعبادات ، احتمل بها وسعهم وبنيتهم ، وحمل عليهم أمورا غير شاقة موافقة لما عليه أمر معاشهم وطباعهم وإن بعد ، ونأى عنهم .
والرابع : أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضا وإهلاك بعضهم بعضا على ما جعل ذلك بقوم ( حين قال موسى لقومه ) {[13263]} : { فتوبوا إلى باريكم فاقتلوا أنفسكم }( البقرة : 54 ) ولو كلف ذلك كان حرجا في الدين وأمثال ذلك .
والخامس : جائز أن يكون قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي من شك وشبه ، أي قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم }وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : على{[13264]} الأمر أن الزموا ملة إبراهيم .
والثاني : أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم .
وقوله تعالى : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا }اختلف فيه . قال عامة أهل التأويل : قوله : { هم سماكم المسلمين }أي الله سماكم المسلمين ، وقال بعضهم : إبراهيم{ هو سماكم المسلمين من قبل }حين{[13265]} قال : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }( البقرة : 132 ) ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان من ولد إسماعيل ، وقد دعا له ولذريته بذلك .
وقوله تعالى : { من قبل وفي هذا }قال بعضهم{ من قبل }في الكتب المتقدمة{ وفي هذا }أي في القرآن . وقال بعضهم : { من قبل }في الأمم الذين كانوا /353-أن قبل ، لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم { وفي هذا } في قومه ، أي{[13266]} كنتم متسمين{[13267]} بهذا الاسم في الأمم الخالية كقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس }( آل عمران : 110 ) أي كنتم خير أمة من الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } قال قائلون : { عليكم } بمعنى : لكم . وذلك جائز في اللغة كقوله : { وما ذبح على النصب }( المائدة : 3 ) أي للنُّصُبِ . فعلى ذلك جائز في هذا{ عليكم } أي لكم .
ويكون تأويله : يكون الرسول لكم شهيدا بالتصديق له { وتكونوا شهداء على الناس } بالتصديق لرسول الله إذا صدقتم إياه .
وقال بعضهم : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } تأويله : يكون شهيدا عليكم إذا خالفتموه ، ولم تصدقوه ، { وتكونوا } أنتم إذا صدقتم رسولكم ، ووافقتموه { شهداء على } سائر{ الناس } إذا كذبوا رسولهم أنهم كذبوه ، وخالفوه .
وفي هذه الآية دلالة اتفاق قرن حجة على من بعدهم حين{[13268]} جعلهم شهداء على من بعدهم ومن قبلهم . وقد ذكرنا تأويل الآية في سورة البقرة{[13269]} .
وقوله تعالى : { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإذا أراد الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة ففي الأمر بإقامة الصلاة أمر بإصلاح ( ما ){[13270]} بينهم وبين ربهم ، وفي الزكاة ( أمر بإصلاح ){[13271]} ما بينهم وبين الخلق كقوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }( العنكبوت : 45 ) .
وفي حرف عبد الله بن مسعود : إن الصلاة تأمر بالعدل ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .
وقوله : { واعتصموا بالله } قال بعضهم : بدين الله ، وهو ما ذكرنا في ما تقدم ذكره من قوله{ اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير }إلى ما ذكر كأنه يقول : اعتصموا بالذي ذكر .
وأصل الاعتصام هو الالتجاء إليه ، فكأنه قال : اعتصموا به من كل ما نهى عنه من الشرور وبكل ما أمر به من الخير .
وقوله تعالى : { هو مولاكم } قال الحسن : هو مولى كل من تولاه بالطاعة . وقال بعضهم : المولى والنصير أي هو ناصركم وحافظكم { فنعم المولى ونعم النصير }المانع والنصير المنتصر : ينتصر لهم من أعدائهم ، ويمنع عنهم الأعداء .
وجائز أن يكون قوله : { هو مولاكم } أي ربكم وسيدكم كما يقال . المولى العبد ، هذا مولاه وسيده ، والله أعلم .
ويكون في قوله : { ليكون الرسول شهيدا عليكم } أنه قد بلغكم { وتكونوا شهداء على الناس } بأن الرسول قد بلغكم .
قال أبو عوسجة : { ما قدروا الله حق قدره } ( الحج : 74 ) أي ما عرفوا الله حق معرفته . يقال في الكلام : ما قدرتك حق قدرك ، أي ما عرفتك ، وقالوا : الحرج الضيق{[13272]} في هذا ، وفي غير هذا الموضع قيل : هو شك في قوله : { فلا يكن في صدرك حرج منه } ( الأعراف : 2 ) أي شك . والضيق إنما يكون من الشك إذا شك في شيء ضاق صدره منه .
قال أبو معاذ : وأصل الحرج في كلام العرب : شجر من شوك ملتف ، والواحدة حرجة ، منه حرجة سلم ، وقوله : { هو اجتباكم }أي اختاركم . وفي حرف ابن مسعود وأبي : هو اجتباكم ، وسماكم المسلمين من قبل . وهذا يؤيد تأويل من يقول : هو سماكم المسلمين ، أي الله سماكم .
وقال بعضهم في قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } قال : لم يفرض على هذه الأمة شيئا إلا جعل فيه رخصة لهم عند الاضطرار مثل التيمم إذا لم تجد ماء ، ( وأن ){[13273]} تصلي قاعدا أو مضطجعا في المرض ، وتفطر إذا كنت مريضا . في نحو هذا ليست فريضة إلا فيها رخصة ، ولم يكن من قبل ذلك ، وهو قول مقاتل بن حبان .
وقال قتادة : قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ضيق . قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا ، لم يعطها إلا نبي : كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله لهذه الأمة { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكان يقال للنبي : أنت شهيد على قومك ، وقال الله لهذه الأمة : { وتكونوا شهداء على الناس } وكان يقول للنبي : سل تعطه ، وقال الله لهذه{[13274]} الأمة { ادعوني أستجب لكم } ( غافر : 60 ) .
وقال بعضهم : في قوله : { اركعوا واسجدوا }أي صلوا لله كقوله : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون }( المرسلات : 48 ) يقول : صلوا لا يصلون .
وقال قتادة : { اركعوا واسجدوا }قال : لا صلاة إلا بركوع ، وإن أقوما أحدثوا بدعا ، يسجد أحدهم مئة سجدة لا يركع فيهن . وكان يقال : مما أحدث الناس رفع الأيدي في الدعاء والأصوات عند المسالة والاختصار في السجود . وقال أبو هريرة : لا يصلح سجود إلا بركوع . والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .