الرابع : قوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } يجوز أن يكون «حَقَّ جِهَادِهِ » منصوباً على المصدر ، وهو واضح . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي جهاداً حق جهاده{[31993]} . وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال { وَجَاهِدُوا فِي الله } . قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه ، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا{[31994]} *** . . .
يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل : حق{[31995]} جهاد فيه . فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير ، وهو من باب هو حقّ عالم وجد ، أي : عالم حقاً وعالم جداً {[31996]} .
المعنى{[31997]} : جاهدوا في سبيل الله «أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ » هو استفراغ الطاقة فيه . قاله ابن عباس ، وعنه قال : لا تخافون لومة لائم . وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال مقاتل بن سليمان{[31998]} : نسخها قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم }{[31999]} {[32000]} [ التغابن : 16 ] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }{[32001]} [ البقرة : 286 ] { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ{[32002]} } [ البقرة : 78 ] و { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر }{[32003]} [ البقرة : 185 ] . فكيف يقول : { وَجَاهِدُوا فِي الله } على وجه لا يقدرون عليه{[32004]} ؟ وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة{[32005]} . وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة{[32006]} . وقيل : يجاهدوا{[32007]} آخراً كما جاهدوا أولاً ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى ، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف{[32008]} : أما علمت أنا كنا نقرأ «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله » ؟ قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء . واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن ، وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية .
وروي عن ابن عباس أنه قرأ : «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة » فقال عمر - رضي الله عنه - : من الذي أمرنا بجهاده ؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت . وقيل : معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله ، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان ، وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر [ وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر »{[32009]} ]{[32010]} وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس . وأما بيان{[32011]} ما يوجب قبول هذه الأوامر ، فهو ثلاثة :
الأول : قوله : «هُوَ اجْتَبَاكُمْ » اختاركم لدينه ، وهذه من أعظم التشريفات ، فأي رتبة أعلى من هذه ، وأي سعادة فوق هذا . ثم قال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وهو كالجواب عن سؤال ، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس ؟ أجاب بعضهم بقوله : { مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ، [ روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه قال : كيف قال الله { ما جعل عليكم في الدين من حرج } {[32012]} ] مع أنه منعنا عن الزنا ؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكن الإصر{[32013]} الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا{[32014]} .
وهذا قول الكلبي ، قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه{[32015]} . وقال ابن عباس{[32016]} ومقاتل : هو الإتيان بالرخص ، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل{[32017]} جالساً ، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم ، وإباحة الفطر في السفر للصائم ، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة{[32018]} .
استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج ، وذلك منفي بصريح هذا النص .
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر ، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً ، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً ، وذلك من أعظم الحرج ، ولما استوى العدمان زال السؤال{[32019]} .
الموجب الثاني : قوله : «مِلَّةَ أَبِيكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمراً . قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء{[32020]} .
الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص ، أي{[32021]} : أعني بالدين ملة أبيكم {[32022]} .
الثالث{[32023]} : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها ، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه{[32024]} مقامه . قاله الزمخشري{[32025]} . وهذا أظهرها {[32026]} .
الرابع : أنها{[32027]} منصوبة{[32028]} بجعلها مقدراً . قاله ابن عطية{[32029]} .
الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر ، أي : كملة أبيكم . قاله الفراء{[32030]} ، وقال أبو البقاء قريباً منه ، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة ، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه{[32031]} .
وقوله : «إبراهيم » بدل أو بيان أو منصوب بأعني .
والمقصود من ذكر «إِبْرَاهِيم » التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام{[32032]} - لأنهم من أولاده ، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول{[32033]} هذا الدين {[32034]} . فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم . فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب ، وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه{[32035]} وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، فهو كقوله تعالى : «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ »{[32036]} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا لكم مثل الوالد »{[32037]} . فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء ، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ، ويؤكده قوله : { اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ }{[32038]} [ النحل : 123 ] .
فالجواب : إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان ، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم ، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع{[32039]} .
قوله : «هُو سَمَّاكُمْ » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على «إبْرَاهِيمَ » ، لأنه أقرب مذكور{[32040]} إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله : «وَفِي هَذَا » ضعف قول من قال : الضمير ل «إبراهيم » ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف{[32041]} . انتهى .
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله : «وَفِي هَذَا » عطف على «مِنْ قَبْلُ » و «هَذَا » إشارة إلى القرآن ، فيلزم أن «إبْرَاهِيمَ » سمّاهم المسلمين في القرآن ، وهو غير واضح ؛ لأن القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال ، فلذلك{[32042]} ضعف قوله .
وقوله : إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر : وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء : قيل : الضمير ل «إبْرَاهِيمَ » فعلى هذا الوجه يكون قوله «وَفِي هَذَا » أي : وفي هذا القرآن{[32043]} سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }{[32044]} [ البقرة : 128 ] ، فاستجاب الله له ، وجعلها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والثاني : أن الضمير يعود على الله تعالى{[32045]} ، ويدلّ له قراءة أُبيّ «اللَّهُ سَمَّاكُمْ }{[32046]} بصريح الجلالة ، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضاً . وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس } . فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض ، وهذا لا يليق إلا بالله {[32047]} .
فقوله : «لِيَكُونَ الرَّسُولُ » متعلق ب «سَمَّاكُمْ »{[32048]} فبيّن فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة ، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه . وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف ، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة{[32049]} . وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله : { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } فهي المفروضات ، لأنها المعهودة . واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية .
قال ابن عباس : سلوا الله العِصمة عن كل المحرمات{[32050]} . وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه{[32051]} . وقال الحسن : تمسكوا بدين الله{[32052]} «هُوَ مَوْلاَكُمْ » سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم . { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } فكأنه تعالى قال : أنا مولاكم بل أنا ناصركم . وحسن حذف{[32053]} المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة .
احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه{[32054]} :
أحدها : أن قوله : «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ » يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل ؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً ، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعاً صالحين عدولاً ، وقد علمنا أن منهم فسّاقاً{[32055]} ، فدل ذلك على أن الله - تعالى - أراد من الفاسق كونه عدلاً .
وثانيها : قوله : «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه .
وثالثها : قوله : «فَنِعْمَ المَوْلَى » فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى ، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرٌّ منه ، فكان يجب أن يوصف بأنه بئْس المولى . وذلك باطل فدل على أنه - سبحانه - ما أراد من جميعهم إلا الصلاح . فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة ؟ قلنا : إنه - تعالى - مولى الكافرين والمؤمنين جميعاً ، فيجب أن يقال : نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين ، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله - تعالى - تعالى الله عند ذلك .
ورابعها : أن قوله : { سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله - تعالى{[32056]} - لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص .
والجواب عن الأول : وهو قولهم إن كونه - تعالى - مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكون عدلاً . فنقول : إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله ، ويلزم كونه - تعالى - مريداً لجهل نفسه ، وإن لم يكن ذلك واجباً فقد سقط الكلام .
وأما قوله : «واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » فيقال : هذا أيضاً وارد عليكم ، فإنه - سبحانه - خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين الإنس والجن ، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال ، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى . فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازمٌ عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية والله أعلم {[32057]} .