غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

ثم أمر بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال : { وجاهدوا في الله } أي في ذاته ومن أجله { حق جهاده } أي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه . وقيل : هو أمر بالغزو ، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر . وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ { وجاهدوا في الله حق جهاده } في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله ؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء . قال العلماء : لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت . وإما عبارات المفسرين فعن ابن عباس : حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم . وقال الضحاك : اعملوا لله حق عمله . وقال آخرون : استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل . وعن مقاتل والكلبي : أن الآية منسوخة بقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] كما أن قوله { اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك . وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ . ثم عظم شأن المكلفين بقوله { هو اجتباكم } أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ثم كان لقائل أن يقول : التكليف وإن كان تشريفاً إلا أن فيه مشقة على النفس فقال { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ضيق وشدة وذلك أنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش . يروى أن أبا هريرة قال : كيف قال سبحانه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة ؟ فقال ابن عباس : بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم . قالت المعتزلة : لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج . وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه ، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلاً وهو أعظم الحرج .

ثم أثنى على هذه الأمة بقوله { ملة أبيكم } أي أعني الدين ملة أبيكم ، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل نبي أبو أمته . والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم . { هو } أي الله أو إبراهيم { سماكم المسلمين من قبل } أي في سائر الكتب أو في قوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] { وفي هذا } القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر ، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن . وقوله { ليكون الرسول } متعلق بقوله { هو اجتباكم } أي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا } [ الآية : 143 ] والأصل تقديم الأمة كما في " البقرة " لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله { فأقيموا الصلاة } والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته . قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات . وقال آخرون : اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر . استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه : الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا ، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر ألبتة . الثالث أنه لو خلق في عبادة الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى . وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريداً لجهل نفسه . وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وأيضا الاعتصام به إنما يكون منه كقوله " أعوذ بك منه " وأيضا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن ، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضاً مقتضياً لذلك .

/خ78