ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء ، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة :
والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان ؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز ، لطول الألفة والتكرار . فأما محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار ؛ لأنها قادمة إليه من عند الله . ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات ، ويرى يده الصناع ! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود . فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة . ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة ، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض ، المتكاثف في أجواز الفضاء . فمن أنشأ هذه الأرض ? ومن جعل فيها الماء ? ومن سلط عليها الحرارة ? ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة ? ومن أودع البخار خاصية الارتفاع ؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء ? ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء ? وما الكهرباء ? وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء ? إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب ، بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب !
( والذي نزل من السماء ماء بقدر ) . .
فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق ؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة ؛ ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة ، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله .
والإنشاء الإحياء . والحياة تتبع الماء . ومن الماء كل شيء حي .
فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها ؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة ، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة . فالإعادة من البدء ؛ وليس فيها عزيز على الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ يعني : ما نزّل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر : يقول : بمقدار حاجتكم إليه ، فلم يجعله كالطوفان ، فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح ، ولا جعله قليلاً ، لا ينبت به النبات والزرع من قلّته ، ولكنه جعله غيثا مغيثا ، وَحَيا للأرض الميتة محييا فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يقول جلّ ثناؤه : فأحيينا به بلدة من بلادكم ميتا ، يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع ، قد درست من الجدوب ، وتعفنت من القحوط كَذلكَ تُخْرَجُونَ يقول تعالى ذكره : كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزّلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع ، كذلك أيها الناس تُخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بقَدَرٍ . . . الاَية ، كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء كذلك تبعثون يوم القيامة وقيل : أنشرنا به ، لأن معناه : أحيينا به ، ولو وصفت الأرض بأنها أحييت ، قيل : نشرت الأرض ، كما قال الأعشى :
حتى يَقُولَ النّاسُ مِمّا رأَوْا *** يا عَجَبا للْمَيّتِ النّاشِرِ
وقوله تعالى : { من السماء } هو المطر بإجماع ، واختلف المتأولون في معنى قوله : { بقدر } فقالت فرقة معناه : بقضاء وحتم في الأزل . وقال آخرون المعنى : بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر ، بل غيثاً مغيثاً سبيلاً نافعاً . وقالت فرقة معناه : بتقدير وتحرير ، أي قدراً معلوماً ، ثم اختلف قائلو هذه المقالة ، فقال بعضهم : ينزل كل عام ماء قدراً واحداً لا يفضل عام عاماً ، لكن يكثر مرة هنا ومرة هاهنا . وقالت فرقة : بل ينزل الله تقديراً ما في عام ، وينزل في آخر تقديراً آخر بحسب ما سبق به قضاؤه ، لا إله غيره . و : { أنشرنا } معناه : أحيينا ، يقال : نشر الميت ، وأنشره الله . و : { بلدة } اسم جنس ، ووصفها ب { ميتاً } دون ضمير من حيث هي واقعة موقع قطر ونحوه ، إذ التأنيث فيها غير حقيقي .
وقرأ الجمهور : «ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «ميِّتاً » بياء مكسورة مشددة ، وهي قراءة عيسى بن عمر ، والأول أرجح لشبه لفظها : بزور ، وعدل ، فحسن وصف المؤنث بها .
وقرأ أكثر السبعة والأعرج وأبو جعفر : «كذلك تُخرَجون » بضم التاء وفتح الراء . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعبد الله بن جبير المصيح : «وكذلك تَخرُجون » بفتح التاء وضم الراء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.