وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكرا نابيا في ظل هذه الحقيقة الناصعة :
( فاختلف الأحزاب من بينهم ) . .
ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الأساقفة - وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة - بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا ، وقالت كل فرقة فيه قولا . . قال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء . وقال بعضهم : هو ابن الله ، وقال بعضهم : هو أحد الأقانيم الثلاثة : الأب والابن والروح القدس . وقال بعضهم : هو ثالث ثلاثة : الله إله وهو إله وأمه إله . وقال بعضهم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته . وقالت فرق أخرى أقوالا أخرى . ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول . فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين .
ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله ، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر ، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين :
( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم . أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين . وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) .
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم . بهذا التنكير للتفخيم والتهويل . المشهد الذي يشهده الثقلان : الإنس والجن ، وتشهده الملائكة ، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : فاختلف المختلفون في عيسى ، فصاروا أحزابا متفرّقين من بين قومه ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال : أهل الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ذُكر لنا أن لما رُفع ابن مريم ، انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم ، فقالوا للأوّل : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، فخلق ما خلق ، وأحيا ما أحيا ، ثم صَعِد إلى السماء ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت اليعقوبية من النصارى وقال الثلاثة الاَخرون : نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثاني : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو ابن الله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت النّسطورية من النصارى وقال الاثنان الاَخران : نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثالث : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت الإسرائيلية من النصارى ، فقال الرابع : أشهد أنك كاذب ، ولكنه عبد الله ورسوله ، هو كلمة الله وروحه فاختصم القوم ، فقال المرء المسلم : أنشُدكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطعم الطعام ، وأن الله تبارك وتعالى : لا يطعم الطعام قالوا : اللهمّ نعم ، قال : هل تعلمون أن عيسى كان ينام ؟ قالوا : اللهمّ نعم ، قال فخصمهم المسلم قال : فاقتتل القوم . قال : فذُكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذٍ وأصيب المسلمون ، فأنزل الله في ذلك القرآن : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأمْرُوُنَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة فاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ اختلفوا فيه فصاروا أحزابا . .
وقوله : فَوَيْلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يقول : فوادي جهنم الذي يدعي ويلاً للذين كفروا بالله ، من الزاعمين أن عيسى لله ولد ، وغيرهم من أهل الكفر به من شهودهم يوما عظيما شأنه ، وذلك يوم القيامة . وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : فَوَيْلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ شهدوا هولاً إذا عظيما .
{ فاختلف الأحزاب من بينهم } اليهود والنصارى . أو فرق النصارى نسطورية قالوا إنه ابن الله ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه . { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه ، وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها . وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه .
هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني اسرائيل اختلفوا أحزاباً أي فرقاً ، وقوله { من بينهم } معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين . وروي في هذا عن قتادة أن بني اسرائيل جمعوا من أنفسهم اربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال احدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد ، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم : عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية ، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريقاً من بني اسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع . وروي أن في ذلك نزلت { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم }{[7963]} [ آل عمران : 21 ] . و «الويل » الحزن والثبور ، وقيل ويل واد في جهنم ، و { مشهد يوم عظيم } هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب { مشهد يوم عظيم } يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب ، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة .
الفاء لتفريع الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم ، أي حادَ عن الصراط المستقيم الأحزابُ فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلكوها ، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافاً أصلياً ، فسلك الأحزاب طرقاً أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء .
وقوله { مِن بينهم } متعلّق باخْتَلَفَ . و ( من ) حرف توكيد ، أي اختلفوا بينهم .
والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى ، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين . وقد كان النصارى على قول واحد على التّوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم . وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } في سورة النساء ( 171 ) أن الاختلاف انحلّ إلى ثلاثة مذاهب : المَلْكَانِيّة ( وتسمى الجاثُلِيقيّة ) ؛ واليعقوبية ، والنسطورية . وانشعبت من هذه الفرق عدّة فِرق ذكرها الشهرستاني ، ومنها الاليانة ، والبليارسية ، والمقدانوسية ، والسبالية ، والبوطينوسية ، والبولية ، إلى فرق أخرى . منها فرقة كانت في العرب تسمى الرّكوسية ورد ذكرها في الحديث : أن النبي قال لعدي بن حاتم : إنّك رَكُوسي . قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئة . وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية ( البُرُوتِسْتان ) أتباع ( لوثير ) . وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية ( كاثوليك ) ، واليعقوبية ( أرثودوكس ) ، والاعتراضية ( بُرُوتستان ) . ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغتراراً وسوءَ فهم في معنى لفظ ( ابن ) الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضاً أصحابه . وقد جاء في التوراة أيضاً أنتم أبناء الله . وفي إنجيل متي الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلههُ وربُّه ، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذُيل بقوله { فَوَيْلٌ للذين كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يومٍ عَظِيمٍ } ، فشمل قولُه ( الَّذِينَ كَفَرُوا ) هؤلاء المخبرَ عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم .
والمشهد صالح لمعان ، وهو أن يكون مشتقاً من المشاهدة أو من الشهود ، ثمّ إما أن يكون مصدراً ميمياً في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما ، أي يوم فيه ذلك وغيره .
والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله ، أي نفوا وحدانيته ، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة ، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين .