قوله تعالى : { إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } ، قال عبد الله بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجوامد كالطين والتراب ، وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي .
قوله تعالى : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } ،
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، وسلمة بن شبيب ومحمود بن غيلان قالوا : أخبرنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل .
هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها - ويدور كله حول محور واحد . . إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية . . الله هو الذي يحرم ويحلل . . والله هو الذي يحظر ويبيح . . والله هو الذي ينهى ويأمر . . ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة . كبيرها وصغيرها . فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها .
والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله ، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله . . وليس هذا الحق لأحد إلا لله . . وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته . . والله لا يحب المعتدين . . والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول . . ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين .
وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر : { يا أيها الذين آمنوا } . . { يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . } . . { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . . } . . { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب . . } . . { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم . . } . .
ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان ، وقضية الدين . . إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده ، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية . . فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته ؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق . ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول ؛ والتحذير من التولي والإعراض ؛ والتهديد بعقاب الله الشديد ، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب .
ثم . . بعد ذلك . . المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم ، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة ؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته :
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً ، فينبئكم بما كنتم تعملون } . .
فهم أمة واحدة لها دينها ، ولها نهجها ، ولها شرعها ، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره . ولا على هذه الأمة - حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه - من ضلال الناس ، ومضيهم في جاهليتهم .
هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته . أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة . والآن نواجهها تفصيلا في حدود هذا الإطار العام :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . . لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم - وأنتم بشر عبيد لله - خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله . فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات ؛ وليس لكم أن تمتنعوا - على وجه التحريم - عن الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا . . فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب . والذي يملك أن يقول : هذا حرام وهذا حلال :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر ، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه ! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق !
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . . وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد ؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . . وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما - الخاصة بحكم الأيمان - قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب . وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحا ودقة :
روى ابن جرير . . أنه [ ص ] جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال ناس من أصحابه : ما حقنا إن لم نحدث عملا ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك ، وأن يأكل بالنهار ؛ وحرم بعضهم النساء . . فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني " ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . الخ .
وفي الصحيحين من رواية أنس - رضي الله عنه - شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير :
قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله [ ص ] يسألون عن عبادته . فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها . قالوا : أين نحن من رسول الله [ ص ] وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر :
وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله [ ص ] إليهم ، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وأخرج الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلًا أتى النبي [ ص ] فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت علي اللحم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المؤمنين الذين نهاهم أن يحرّموا طيبات ما أحلَ الله لهم : كلوا أيها المؤمنون من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم حلالاً طيبا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : وكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيّبا يعني : ما أحلّ الله لهم من الطعام .
وأما قوله : " وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ " ، فإنه يقول : وخافوا أيها المؤمنون أن تعتدوا في حدوده ، فتحلوا ما حرّم عليكم وتحرّموا ما أحلّ لكم ، واحذروه في ذلك أن تخالفوه فينزل بكم سخطه ، أو تستوجبوا به عقوبته . " الّذِي أنْتُمْ به مُؤْمِنُونَ " يقول : الذي أنتم بوحدانيته مقرّون وبربوبيته مُصدّقون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(وكُلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) اللباس والنساء والطعام، (واتقوا الله)، ولا تُحرِّموا ما أَحَلَّ اللهُ لكم، واتقوا الله، (الذي أنتم به مؤمنون): الذي أنتم به مُصدِّقون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المؤمنين الذين نهاهم أن يحرّموا طيبات ما أحلَ الله لهم: كلوا أيها المؤمنون من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم حلالاً طيبا. "وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ": وخافوا أيها المؤمنون أن تعتدوا في حدوده، فتحلوا ما حرّم عليكم وتحرّموا ما أحلّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه فينزل بكم سخطه، أو تستوجبوا به عقوبته. "الّذِي أنْتُمْ به مُؤْمِنُونَ ": الذي أنتم بوحدانيته مقرّون وبربوبيته مُصدّقون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} يحتمل أن يكون الحلال هو الطيب، والطيب هو الحلال، سماهما باسمين، وهما واحد. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا} بالشريعة والدين، و {طيبا} بالطبيعة لأن الحل والحرمة معرفتهما بالشريعة، والطيب ما تستطيب به الطبائع...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} قال عبد اللّه بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه، والطيب ما غذا ونما، فأما الجوامد والطين والتراب، وما لا يغذي فمتروك إلاّ على جهة التداوي {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "وكلوا "لفظه لفظ الأمر، والمراد به الإباحة، أباح الله تعالي للمؤمنين أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيبا، فالرزق هو: ما للحي الانتفاع به وليس لغيره منعه منه. وقال الرماني: الرزق هو العطاء الجاري في الحكم...
فإن قيل: إذا كان الرزق لا يكون إلا حلالا فلم قال: (حلالا)؟ قيل: ذكر ذلك على وجه التأكيد كما قال "وكلم الله موسى تكليما". وقد أطلق في موضع آخر على جهة المدح" ومما رزقناهم ينفقون". وقوله: "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" استدعاء إلى التقوى بألطف الاستدعاء، وتقديره أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى فيكون عليكم الحسرة العظمى، واتقوا تحريم ما أحله الله لكم في جميع معاصيه من أنتم به تؤمنون وهو الله تعالى ...
...وفي هاتين الآيتين دلالة على كراهة التخلي والتفرد والتوحش والخروج عما عليه الجمهور في التأهل وطلب الولد وعمارة الأرض.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كلوا} في هذه الآية عبارة عن تمتعوا بالأكل والشرب واللباس والركوب. ونحو ذلك، وخص الأكل بالذكر لأنه أعظم المقصود 514 وأخص الانتفاعات بالإنسان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الحال لما ألزموا به أنفسهم مقتضياً للتأكيد، أمر بالأكل بعد أن نهى عن الترك ليجتمع على إباحة ذلك الأمر والنهيُ فقال: {وكلوا} ورغبهم فيه بقوله: {مما رزقكم الله} أي الملك الأعظم الذي لا يرد عطاؤه.
ولما كان الرزق يقع على الحرام، قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله: {حلالاً} ولما كان سبحانه قد جعل الرزق شهياً، وصفه امتناناً وترغيباً فقال: {طيباً} ويجوز أن يكون قيداً محذراً مما فيه شبهة تنبيهاً على الورع، ويكون معنى طيبه تيقن حله، فيكون بحيث تتوفر الدواعي على تناوله ديناً توفّرها على تناول ما هو نهاية في اللذة شهوة وطبعاً، وأن يكون مخرجاً لما تعافه النفس مما أخذ في الفساد من الأطعمة لئلا يضر، قال ابن المبارك: الحلال ما أخذ من جهته، والطيب ما غذّي ونميّ، فأما الطين والجوامد وما لا يغذي فمكروه إلا على جهة التداوي، وأن يكون مخرجاً لما فوق سد الرمق في حالة الضرورة، ولهذا وأمثاله قال: {واتقوا الله} أي الملك الذي له الجلال والإكرام من أن تحلوا حراماً أو تحرموا حلالاً، ثم وصفه بما يوجب رعي عهوده والوقوف عند حدوده فقال: {الذي أنتم به مؤمنون} أي ثابتون على الإيمان به، فإن هذا الوصف يقتضي رعي العهود، وخص سبحانه الأكل، والمراد جميع ما نهي عن تحريمه من الطيبات، لأنه سبب لغيره من المتمتعات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} هذا تصريح بالأمر بضد مقتضى النهي الذي قبله، أي كلوا مما رزقكم الله تعالى إياه حال كونه حلالا في نفسه غير داخل فيما حرمه عليكم – من الميتة بأنواعها والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله – وحلالا في طريقة كسبه وتناوله، بأن لا يكون ربا أو سحتا أو غصبا أو سرقة [ومن الناس من يقول إن الرزق في عرف الشرع ما ملك ملكا صحيحا، لا كل ما انتفع به الإنسان، فلا يحتاج إلى هذا القيد] وحال كونه مستلذا غير مستقذر في نفسه أو لفساد طرأ عليه كالطعام المنتن.
والمراد بالأكل التمتع فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا غير مسكر ولا ضار. طيبا غير مستقذر في نفسه أو بفساده أو نجاسة طرأت عليه. وإنما عبر بالأكل لأنه هو الغالب، كما عبر به في مثل قوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29] وهو يعم كل ما ينتفع به من طعام وشراب ولباس ومتاع ومأوى. وكثيرا ما تطلق العرب الخاص فتريد به العام، وما تطلق العام فتريد به الخاص، ويعرف ذلك بالسياق والقرائن.
الأمر ههنا للوجوب لا للإباحة، فهو ليس من الأمر بالشيء بعد النهي عنه المفيد للإباحة فقط كقوله: {فإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] وإنما هو تصريح بأن امتثال النهي عن تحريم الطيبات لا يتحقق إلا بالانتفاع بها فعلا، إذ ليس المراد بتحريمها المنهي عنه تحريمها بمجرد القول أو بالاعتقاد، بل المراد به أولا وبالذات الامتناع منها عمدا تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، أو إضعافا للجسد توهما أن إضعافه يقوي الروح، أو لغير ذلك من الأسباب والعلل، كمن يحرم على نفسه شيئا بنذر لجاج أو يمين، وكل هذا مما لا يزال يبتلى به كثير من المسلمين. دع ما كانت تحرمه الجاهلية على أنفسها من الأنعام أو نسلها تكريما لها لكثرة نتاجها، أو تعظيما لصنم تسيبها له. كما تراه مبينا في سورة الأنعام التي بعد هذه السورة.
وحكمة النهي عن ذلك أن الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله، ويشكروا له ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها، فيمنعوها حقوقها، وأن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها باستباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه. ولأجل هذه الحكمة لم يكتف بالنهي عن تحريم الطيبات، حتى صرح بالأمر باستعمالها والتمتع بها. وقد بين تعالى غاية ذلك وحكمته التي أشرنا إليه بقوله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون} والشكر يكون بالقول والعمل، ولذلك قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الآية في خطاب المؤمنين، وما في معناها من خطاب المرسلين، فقال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب – ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له» رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم. وفي الحديث تعريض بالعباد وأهل السياحة من الأمم السالفة الذين كانوا يرون أن روح العبادة التقشف والشعوثة، حتى أنهم على تقشفهم ما كانوا يتحرون الحلال كأنهم يرون التقشف وتعذيب النفس يبيحان لهم ما عداهما، فيكونون أهلا لاستجابة دعائهم. واستدل بعضهم بالحديث على كون المراد بالطيبات الحلال، ميلا إلى ذلك المذهب البرهمي، بل زعم بعضهم مثل ذلك في الآيات التي قرنت الحلال بالطيب فجعلوا الطيب تأكيدا للحلال؟
فامتثال هذا الأمر وذلك النهي معا لا يتحقق إلا بالتمتع بما يتيسر من الطيبات فعلا بلا تأثم ولا حرج. بل ينبغي للمؤمن أن يكون طيب النفس بذلك، ملاحظا أنه من نعمة الله وفضله، ومن أسباب مرضاته ومثوبته، وأن مرضاته ومثوبته عليه تكون على حسب شهود المنتفع للنعم وشكره للمنعم، وأعني بالشهود أن يحضر قلبه أنه عامل بشرع الله، ومقيم لسنة فطرته التي فطر الناس عليها، وأنه يجب أن يشكر له ذلك بالاعتراف والحمد والثناء، كما شكره بالاعتقاد والاستعمال، وبذلك يكون عاملا بالكتاب والحكمة.
فعلم مما شرحناه أن امتناع امرئ من الطيبات التي رزقه الله إياها، مع الداعية الفطرية للاستمتاع بها، إثم يجنيه على نفسه في الدنيا. ويستحق به عقاب الله في الآخرة، بزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها الله، وبما يترتب على ذلك من إضاعة بعض حقوق الله وحقوق عباد الله. كإضاعة حقوق امرأته أو عياله. وناهيك به إذا انتصب قدوة لغيره، فكان سببا لغلو بعض الناس في الدين وتحريمهم على أنفسهم وعلى من يقتدي بهم ما أحله الله تعالى. والتحريم والتحليل تشريع، وهو حق من حقوق الربوبية، فمن انتحله لنفسه كان مدعيا للربوبية أو كالمدعي لها. ومن اتبع في ذلك فقد اتخذ ربا، كما يؤخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] وسيأتي في موضعه من التفسير.
{واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)} في الأكل وغيره فلا تفتاتوا عليه في تحريم ولا تحليل، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل ولا فيما حرم، فإن اتقاء سخطه في ذلك من لوازم إيمانكم به. ومن اعتداء حدوده في الأكل والشرب الإسراف فيهما، فإنه قال: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31] فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم فهو من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل، فهو من المسرفين، وما كان المسرف من المتقين.
الأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا. فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد. وبه يدفع إشكال من عساه يقول: إن الدين شرع لتزكية النفس، والتمتع بالشهوات واللذات، ينافي هذه التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات، وكم أفضى التوسع في المباحات إلى المحرمات؟ وقد ذكر تعالى أنه يقال في الآخرة لأهل النار {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف: 20] فكيف يكون الاستمتاع بالطيبات مطلوبا شرعا؟ وكيف يحتاج فيه إلى أمر الشرع، وهو مستغنى عنه باقتضاء الطبع؟
وبيان الدفع أن تزكية الأنفس إنما تكون بإيقافها عند حد الاعتدال، واجتناب التفريط والإفراط، وقد خلق الله الإنسان مركبا من روح ملكية وجسد حيواني، فلم يجعله ملكا محضا، ولا حيوانا محضا، وسخر له بهذه المزية جميع ما في عالمه الذي يعيش فيه من المواد والقوى والأحياء، وجعل من سنته في خلقه أن تكون سلامة البدن وصحته من أسباب سلامة العقل وسائر قوى النفس. ولذلك حرم عليه ما يضر بجسده، كما حرم عليه ما يضر بروحه وعقله. ومن ضعف جسده عجز عن القيام بالصلاة والصيام والحج والجهاد والكسب والواجب عليه للنفقة على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم، وعلى مصالح أمته العامة. فإن لم يعجز عن القيام بها كلها، عجز عن بعضها، أو عن الكمال فيها غالبا. كما أنه يقل نسله ويجيء قميئا ضعيفا أو ينقطع البتة، ويكون بذلك مسيئا إلى نفسه وإلى الأمة. والتمتع بالطيبات من غير إسراف ولا اعتداء لحدود الله وسنن فطرته هو الذي يؤدي به حق الجسد وحق الروح، ويستعان به على أداء حقوق الله وحقوق خلقه، فإن صحبته التقوى فيه وفي غيره تتم به التزكية المطلوبة.
لا ننكر مع هذا أن منع النفس من الشهوات المباحة أحيانا مما يستعان به على تزكية النفس وتربية الإرادة، وحسبنا منه ما شرعه الله لنا من الصيام، وهو مما يدخل في عموم التقوى في هذا المقام، فإنه سبحانه وتعالى بين لنا أن حكمة الصيام وسبب شرعه كونه مرجوا لتحصيل ملكة التقوى إذ قال: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 183) وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير هذه الآية من الجزء الثاني وفي مواضع أخرى. فالصيام رياضة بدنية نفسية، وجمع بين حرمان النفس من لذاتها بقصد التربية، وبين تمتيعها بها توسلا إلى شكر النعمة والقيام بالخدمة أما ما قيل من استغناء الناس بداعية الطبع عن أمر الشرع بهذا التمتع، فهو مدفوع بما أحدثه حب الغلو في كثير من الناس من الجناية على أبدانهم وعقولهم وأممهم بترك طيبات الطعام والنساء. وأما ما يقال للكفار يوم القيامة {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} (الأحقاف: 20) فمعناه أنهم جعلوا كل همهم من حياتهم الدنيا التمتع الجسدي ولو بالحرام، فلم يعطوا إنسانيتهم حقها بالجمع بينه وبين تقوى الله التي هي سبب النعيم الروحاني. وقد بين تعالى ذلك بقوله: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} (محمد: 12).
فتبين مما شرحناه في تفسير الآيتين أن هدي القرآن في الطيبات أي المستلذات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال، والتزام الحلال، كهديه في سائر الأشياء التي يسرف فيها بعض الناس ويقصر بعض. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فأكثر الناس ينحرفون عنه في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، فيكونون كالأنعام بل أضل لما يجنون به على أنفسهم، حتى قال بعض الحكماء: إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم. يعني أنهم لإسرافهم في الطعام يصابون بأمراض تكون سببا لقصر آجالهم، وإسراع الهرم فيهم. والقليل من الناس ينحرفون عنه إلى جانب التفريط والتقصير، إما اضطرارا كالمقترين البائسين، وإما اختيارا كالزهاد المتقشفين، والتزام صراط الاعتدال المستقيم أعسر وأشق على النفس، وأدل على الفضيلة والعقل، وكل حزب بما لديهم فرحون.
لا يخطر على بال المسرف أن يدعي أنه متبع هدى الدين في إسرافه، وقصارى ما يعتذر به عن نفسه إذا عذل وعيب عليه إسرافه شرعا أن يدعي أنه لم يتجاوز حد ما أباحه الله له. وإذا قصد المعتدل إتباع الشرع بإقامة سنة الفطرة وإعطاء كل ذي حق حقه من جسده ونفسه وأهله، وشكر الله على نعمه باستعمالها كما ينبغي، فقلما يفطن الناس لذلك منه، ولا يكاد أحد يعده به كامل الدين معتصما بالفضيلة، فهي فضيلة لا رياء فيها ولا سمعة، وإنما المفرطون بتعمد التقشف هم الذين كثيرا ما يغترون بأنفسهم ويغتر الناس بهم، فهم على انحرافهم عن صراط الدين، يدعون أو يدعي فيهم أنهم أكمل الناس في إتباع الدين.
أعوز هؤلاء النص على دعوى كون الغلو في التقشف من الدين فتعلقوا ببعض وقائع الأحوال من سيرة فقراء السلف الصالح على تصريحهم بأن وقائع الأحوال في السنة لا يستدل بها لإجمالها وتطرق الاحتمال إليها، فكيف إذا كانت وقائع من لا يحتج بقول أحد منهم ولا بفعله؟
عقد أبو حامد الغزالي في إحيائه كتابا سماه (كتاب كسر الشهوتين) – شهوة البطن وشهوة الفرج – وطريقته أن يبدأ في كل موضوع بما ورد فيه من الآيات فالأخبار النبوية فالآثار السلفية، ونراه لم يجد آية يبدأ بها موضوع (بيان فضيلة الجوع وذم الشبع) فبدأه بأحاديث أكثرها لا يعرف المحدثون له أصلا قط، وبعضها ضعيف أو موضوع. فمن هذه الأحاديث أكثرها ما نذكره غير مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
-جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش.
– لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه.
– قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: من قل مطعمه وضحكه ورضي بما يستر به عورته
وجملة القول إنه لم يورد في جملة تلك الأحاديث كلها من الصحاح إلا حديث «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» 48 هو في البخاري بلفظ «يأكل المسلم في معي واحد والكافر في سبعة أمعاء» وفي مسلم والترمذي والنسائي بلفظ «المؤمن يشرب في معي واحد» الخ وله قصة حملت الطحاوي وابن عبد البر على القول بأنه خاص بكافر واحد لا عام. ولغيرهما فيه بضعة أقوال منها أنه مثل للمبالغة في هم الكافر بالتمتع. وحديث عائشة «ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا عن خبز الحنطة حتى فارق الدنيا» وهو في الصحيحين.
أما المعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أنه كان يأكل ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، وتارة يجوع وتارة يشبع ليكون قدوة للمعسر والموسر، ولكنه ما كان يهمه أمر الطعام. وإنما كان يعني بأمر الشراب. ففي حديث عائشة في الشمائل للترمذي «كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد» وفي سنن أبي داود أنه كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا (بضم السين عين أو قرية بينها وبين المدينة يومان) قال العلماء يدخل في ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر والزبيب ونحو ذلك. والتفصيل في كتب السنة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) الأمر هنا للإباحة وقال بعضهم: إنه للندب وبعض يرى أنه واجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله تعالى تركا مطلقا، ولا يكن قد حرم ذلك على نفسه، والتحريم منهي عنه بقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) والرأى عندي ان يكون الأمر للإباحة المستحسنة لان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله يجب أن يرى أثر نعمته على عبده) 515 وقد زكى سبحانه وتعالى الطلب الإباحي و الندبي بأمور أربعة: أولها، أنه جعله مما رزقه الله سبحانه وتعالى وان الله لا يرزق إلا ما يكون في تناوله خير، ولقد كان بعض التابعين يحرم على نفسه الفالوذج فرد الحسن ذلك بأن الله تعالى رزقه إذ قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: (لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم). الأمر الثاني: أن الله وصفه بأن يكون حلالا قد أحله الله تعالى ولم يحرمه فإن إحلال الله تعالى نوع من ضيافته سبحانه وتعالى على رزقه وأنى يسوغ لمؤمن أن يرفض ضيافة الله سبحانه وتعالى، فإذا رزقك الله ثوبا حسنا وأباحه لك لأنه كسب طيب لا خبث فيه، فاعلم أنه هدية الله تعالى أهدها إليك فإن اخترت خشن الثياب بدلا منه فقد رفضت هدية الله تعالى، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكبر وذكر أنه لا يدخل الجنة متكبر، فقال بعض الصحابة: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فهل هذا من التكبر فقال صلى الله عليه وسلم: (ان الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) 516. الأمر الثالث: أن الله تعالى وصف الرزق بأن يكون طيبا، والطيب يشمل وصفين أحدهما، أن يكون طريق كسبه طيبا، لا خبث فيه، فقد يكون الشيء في ذاته لم يحرمه الله تعالى، ولم يمنع استعماله، ولكن طريق الحصول عليه كان خبيثا، فالمال اشتراه به كان كسبه خبيثا، كان يكون من ربا أو سحت أو نحو ذلك من أسباب الكسب الخبيث والوصف الثاني: الذي تشمله كلمة الطيب أن يكون مرغوبا فيه، فإن كان طعاما يكون بحيث لا تعافه نفس المتناول فإن كان كذلك لا يطلب منه أكله لأن ما تأكله وأنت تشتهيه فقد أكلته وما تأكله وأنت لا تشتهيه فقد أكلك. الأمر الرابع: هو أمره سبحانه وتعالى بتقوى الله تعالى: وقد زكى طلب التقوى بارتباطه بالإيمان بالله تعالى إذ قال تعالت كلماته: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون). وجه التزكية ذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة بالقلوب، وبيان أن الإيمان يقتضي التقوى، وأكد الإيمان بالله بالجملة الاسمية.والتقوى أن يلاحظ الشخص حق الله تعالى وحق الناس فيما يتناوله من طيبات وألا يدفعه ذلك إلى الغرور والتعالي، والتفاخر والاستطالة على الناس، وألا يدفعه طلب الحلال إلى نسيان الحمد والشكر، في كل ما يتناوله، ويناله، وأن يقوم بحق الله تعالى وحق الناس وأن ينعم بالنعمة، ويصبر إذا أزالها، ويكون من المتقين الصابرين المذكورين في قوله تعالى: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه ليئوس كفور 9 ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور10) (هود). فالنعم تحتاج إلى صبر وإعطائها حقها من الشكر.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)}. أولا نسأل: ما هو الرزق؟ الرزق هو ما انتفع به. فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلمه رزق، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق، وكل شيء ينتفع به يسمى رزقا. ولكن حين يقول الحق: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان. وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب. إذن فهناك رزق حرام، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به، هذا رزق جاء عن طريق حرام، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه. أو الرزق هو ما أحله الله، وهنا اختلف العلماء وتساءل البعض: هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقا؟ وتساءل البعض الآخر: هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالا ومنه ما يكون حراما؟ الحق يقول: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} (من الآية 88 سورة المائدة) كلوا ما رزقكم هذا أسلوب، {ومما رزقكم الله} هذا أسلوب آخر. فما رزقكم الله أي نأكله كله، وهذه لا تصلح؛ لأننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه؛ لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحا لإيجاد مثله، وإما أن يكون غير صالح لإيجاد مثله، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلا فهو لا ينتج سنبلة قمح، إذن يجب علينا أن نأكل بعضا ونستبقي بعضا صالحا لأن ينتج مثله، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الرزق لا نأكله، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتدادا رزقيا في الحياة. والرزق الحلال هنا نوعان: ما يصلح لامتداده فيجب احتجاز بعض منه من أجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر. وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلا. نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة...
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {مما رزقكم الله} تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر. {اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} أي أنك حين تتقي من تؤمن به إلها فليس في ذلك غضاضة؛ لأنك آمنت أنه إله وقوى، والغضاضة في أن تأمر بأمر مساو لك، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك، فهذا لا يكون سببا في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم...
{واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)} [من الآية 88 سورة المائدة]. هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين؛ إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروا به...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءت الآية الثانية {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} لتثير أمام النَّاس أنَّ هذه الطيبات، هي من الحلال الطيِّب الَّذي رزقه الله للنَّاس، وبالتالي ليس هناك من مشكلةٍ في تناولها، لأنَّ الله الَّذي رزقهم إياها، جعلها رزقاً حلالاً طيباً، والله لا يرزق الإنسان شيئاً ليمنعه عنه، إلاَّ في الحدود الّتي تدخل في تفاصيل الفعل والممارسة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}، فإنَّ الإيمان بالله يجعل المؤمن يعيش الحضور الدائم مع الله، والإحساس العميق بوجوده، ما يدفعه إلى مراقبته الّتي تقوده إلى التقوى في جميع الأمور، إذ لا معنى للإيمان بدون الالتزام والمراقبة الدائمة، وذلك هو الخط الَّذي يدعو القرآن الكريم النَّاس إلى السير عليه في كل موقفٍ من مواقف التشريع، وفي كل موقعٍ من مواقع الحياة، ليكون ذلك هو الأساس الَّذي يُحقّق الانضباط المستمر المرتكز على قاعدة الإيمان والإسلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي هذه الآية أمر بالانتفاع المشروع من الهبات الإِلهية، فيقول: (وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيباً). والشرط الوحيد لذلك هو الاعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي أنّ إِيمانكم بالله يوجب عليكم احترام أوامره في التمتع وفي الاعتدال والتقوى. هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّ الأمر بالتقوى يعني إِن تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة، فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإِنسان حد الاعتدال من جميع الجهات.