قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، قرأ يعقوب : آزر بالرفع ، يعني آزر ، والقراءة المعروفة بالنصب ، وهو اسم أعجمي لا ينصرف ، فينصب في موضع الخفض ، قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم ، وهو تارخ أيضاً ، مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من كوثى ، قرية من سواد الكوفة ، وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم ، واسمه تارخ ، وقال سليمان التيمي : هو سب وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج ، وقيل : معناه الشيخ الهرم بالفارسية ، وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم ، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره : أتتخذ آزر إلهاً .
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر ، فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين ) .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في ضميرها ، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله ! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا ، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته . . ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى ، والامتلاء الجياش ، بهذه الحقيقة ، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها ! . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ؛ ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفه الصلبة الحاسمة الصريحة :
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهة - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد ، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء ، والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر ، أو وثنا من خشب . . وإذا لم تكن هذه الاصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد ؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد !
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين ، فتنكره وتستنكره ، وتجهر بكلمة الحق وتصدع ، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة :
( أتتخذ أصناما آلهة ؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين ) . .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين ، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة ، وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها ، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان ، والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما نت عليهم محتج ، حجاجَ إبراهيم خليلي قومه ، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان ، وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الأصنام فاتخِذْهُ إماما واقْتَدِ به ، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالاً ، إذ قال لأبيه مفارقا لدينه وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه : يا آزر .
ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ بآزر ، وما هو ؟ اسم أم صفة ؟ وإن كان اسما ، فمن المسمى به ؟ فقال بعضهم : هو اسم أبيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه آزر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : آزر : أبو إبراهيم . وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلاً من أهل كُوثَى ، من قرية بالسواد ، سواد الكوفة .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر ، قال : هو آزر ، وهو تارح ، مثل إسرائيل ويعقوب .
وقال آخرون : إنه ليس أبا إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : ليس آزر أبا إبراهيم .
حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوريّ ، قال : أخبرني رجل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ قال : آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيىبن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : آزر : اسم صنم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه . ويقال : لا ، بل اسمه تارج ، واسم الصنم آزر يقول : أتتخذ آزر أصناما آلهة .
وقال آخرون : هو سبّ وعيب بكلامهم ، ومعناه : معوجّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحقّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ بفتح «آزر » على إتباعه الأب في الخفض ، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجرّوه وإن كان في موضع خفض . وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك : «آزرُ » ، بالرفع على النداء ، بمعنى : «يا آزرُ » . فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن آزر اسم صنم ، وإنما نصبه بمعنى : «أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فقول من الصواب من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام ، لا تقول : أخاك أكلمت ، وهي تريد : أكلمت أخاك .
والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ بفتح الراء من «آزر » ، على إتباعه إعراب «الأب » ، وأنه في موضع خفض ، ففُتح إذ لم يكن جاريا لأنه اسم عجميّ . وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لإجماع الحجة من القراء عليه .
وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام ، صحّ لك فتحه من أحد وجهين : إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله ، فيكون في موضع خفض ردّا على الأب ، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميّا ترك إجراؤه ، ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم . أو يكون نعتا له ، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه ، ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله . فيكون تأويل الكلام حينئذ : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ وإن لم يكون له وجهة في الصواب إلاّ أحد هذين الوجهين ، فأولى القولين بالصواب منهما عندي ، قول من قال : هو اسم أبيه لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه . وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاَخر الذي زعم قائله أنه نعت .
فإن قال قائل : فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح ، فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح ؟ قيل له : غير محال أن يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا ، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبا ، والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : أتَتّخِذُ أصْناما آلِهَة إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال : أتتخذ أصناما آلهة تعبدها وتتخذها ربّا دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك والأصنام : جمع صنم ، التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان ، وهو الوثن . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط غيره : صنم ووثن . إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول : إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة في ضَلالٍ يقول : في زوال عن محجة الحق ، وعدول عن سبيل الصواب مُبِين يقول : يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم . يعني بذلك : أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم ، دون غيره من الاَلهة والأوثان .