جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{۞وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (74)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها ، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان ، والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما نت عليهم محتج ، حجاجَ إبراهيم خليلي قومه ، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان ، وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الأصنام فاتخِذْهُ إماما واقْتَدِ به ، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالاً ، إذ قال لأبيه مفارقا لدينه وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه : يا آزر .

ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ بآزر ، وما هو ؟ اسم أم صفة ؟ وإن كان اسما ، فمن المسمى به ؟ فقال بعضهم : هو اسم أبيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه آزر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : آزر : أبو إبراهيم . وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلاً من أهل كُوثَى ، من قرية بالسواد ، سواد الكوفة .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر ، قال : هو آزر ، وهو تارح ، مثل إسرائيل ويعقوب .

وقال آخرون : إنه ليس أبا إبراهيم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : ليس آزر أبا إبراهيم .

حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوريّ ، قال : أخبرني رجل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ قال : آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيىبن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : آزر : اسم صنم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال : اسم أبيه . ويقال : لا ، بل اسمه تارج ، واسم الصنم آزر يقول : أتتخذ آزر أصناما آلهة .

وقال آخرون : هو سبّ وعيب بكلامهم ، ومعناه : معوجّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحقّ .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ بفتح «آزر » على إتباعه الأب في الخفض ، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجرّوه وإن كان في موضع خفض . وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك : «آزرُ » ، بالرفع على النداء ، بمعنى : «يا آزرُ » . فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن آزر اسم صنم ، وإنما نصبه بمعنى : «أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فقول من الصواب من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام ، لا تقول : أخاك أكلمت ، وهي تريد : أكلمت أخاك .

والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ بفتح الراء من «آزر » ، على إتباعه إعراب «الأب » ، وأنه في موضع خفض ، ففُتح إذ لم يكن جاريا لأنه اسم عجميّ . وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لإجماع الحجة من القراء عليه .

وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام ، صحّ لك فتحه من أحد وجهين : إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله ، فيكون في موضع خفض ردّا على الأب ، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميّا ترك إجراؤه ، ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم . أو يكون نعتا له ، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه ، ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله . فيكون تأويل الكلام حينئذ : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ؟ وإن لم يكون له وجهة في الصواب إلاّ أحد هذين الوجهين ، فأولى القولين بالصواب منهما عندي ، قول من قال : هو اسم أبيه لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه . وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاَخر الذي زعم قائله أنه نعت .

فإن قال قائل : فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح ، فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح ؟ قيل له : غير محال أن يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا ، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبا ، والله تعالى أعلم .

القول في تأويل قوله تعالى : أتَتّخِذُ أصْناما آلِهَة إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال : أتتخذ أصناما آلهة تعبدها وتتخذها ربّا دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك والأصنام : جمع صنم ، التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان ، وهو الوثن . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط غيره : صنم ووثن . إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول : إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة في ضَلالٍ يقول : في زوال عن محجة الحق ، وعدول عن سبيل الصواب مُبِين يقول : يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم . يعني بذلك : أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم ، دون غيره من الاَلهة والأوثان .