معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ جَآءَتۡهُمُ ٱلرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (14)

قوله تعالى : { إذ جاءتهم } يعني : عاداً وثموداً ، { الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم } أراد الذين أرسلوا إلى آبائهم من قبلهم ، ومن خلفهم ، يعني من بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم الذين أرسلوا إليهم ، هود وصالح ، فالكناية في قوله { من بين أيديهم } راجعة إلى عاد وثمود وفي قوله :{ ومن خلفهم } راجعة إلى الرسل { أن لا } بأن لا ، { تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل } بدل هؤلاء الرسل ، { ملائكة } أي : لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة ، { فإنا بما أرسلتم به كافرون }

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، حدثنا عبد الله بن حامد الأصفهاني ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، أنبأنا أحمد بن مجدة بن العريان ، حدثنا الحماني ، حدثنا ابن فضيل ، عن الأجلح ، عن الذيال بن حرملة ، عن جابر ابن عبد الله قال : قال الملأ من قريش وأبو جهل : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر ، فأتاه فكلمه ، ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفى علي إن كان كذلك أو لا ، فأتاه فلما خرج إليه قال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا ؟ وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا ؟ فكنت رأساً ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ؟ وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ، فلما فرغ ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته } إلى قوله :{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود } الآية . فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى دين محمد ، وقد أعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فانطلقوا إليه ، فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى دين محمد وأعجبك طعامه ، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ؟ فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمداً أبداً ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود } )( فصلت-13 ) فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب . وقال محمد بن كعب القرظي : " حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيداً حليماً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل منا بعضها ، فنعطيه ويكف عنا ، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه ، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد ، فقال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا ، وإن كان هذا الذي بك رئياً تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب ، ولعل هذا شعر جاش به صدرك ، فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه غيركم ، حتى إذا فرغ ما عنده من سائر الأمور التي يزعم أنها ترده عما يقول : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال :فاستمع مني ، قال : فافعل ، فقال صلى الله عليه وسلم :بسم الله الرحمن الرحيم { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا } ثم مضى فيها يقرأ ، فلما سمعها عتبة أنصت له ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد ، ثم قال :قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال : ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت بمثله قط ، ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم ، فأنتم أسعد الناس به ، فقالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ جَآءَتۡهُمُ ٱلرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (14)

إنها جولة في مصارع الغابرين ، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين :

( إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله ) . .

الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .

( قالوا : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون ) . .

وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية ، ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم ، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !