قوله تعالى : { اقتلوا يوسف } ، اختلفوا في قائل هذا القول ، فقال وهب : قاله شمعون . وقال كعب : قاله دان . { أو اطرحوه أرضاً } ، أي : إلى أرض يبعد عن أبيه . وقيل : في أرض تأكله السباع . { يخل لكم } ، يخلص لكم ويصف لكم . { وجه أبيكم } ، عن شغله بيوسف ، { وتكونوا من بعده } ، من بعد قتل يوسف ، { قوماً صالحين } ، تائبين ، أي : توبوا بعدما فعلتم هذا يعف الله عنكم . وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم .
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ْ } أي : غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها .
فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ْ } أي : يتفرغ لكم ، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة ، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم ، { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ْ } أي : من بعد هذا الصنيع { قَوْمًا صَالِحِينَ ْ } أي : تتوبون إلى الله ، وتستغفرون من بعد ذنبكم .
فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله ، وإزالة لشناعته ، وتنشيطا من بعضهم لبعض .
وقوله : { اقتلوا يوسف } الآية ، كانت هذه مقالة بعضهم . { أو اطرحوه } معناه : أبعدوه ، ومنه قول عروة بن الورد :
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً*** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح{[6569]}
والنوى : الطروح البعيدة ، و { أرضاً } مفعول ثان بإسقاط حرف الجر ، لأن طرح - لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك . وقالت فرقة : هو نصب على الظرف - وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه{[6570]} .
وقوله : { يخل لكم وجه أبيكم } استعارة{[6571]} ، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم ، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه : الثكل أرأمها{[6572]} ، أي عطفها عليه ، والضمير في { بعده } عائد على يوسف أو قتله أو طرحه ، و { صالحين } قال السدي ومقاتل بن سليمان : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم ، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء ، وقال الجمهور : { صالحين } معناه بالتوبة ، وهذا هو الأظهر من اللفظ ، وحالهم أيضاً تعطيه ، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة ؛
جملة مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأنّ الكلام المتقدم يثير سؤالاً في نفوس السّامعين عن غرض القائلين ممّا قالوه فهذا المقصود للقائلين . وإنّما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثّر نفوس السّامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه .
وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السّامعين لتتأثّر بالغرض 4المطلوب . فإنّ حالةَ تأثّر النفوس تغني عن الخطيب غَناء جمَل كثيرة من بيان العلل والفوائد ، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة « فلما دَفنوا الميْت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخٌ من رِباوة ، متأبّطاً لهراوة ، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون » . وانهلّ في الخطب .
والأمر مستعمل في الإرشاد . وأرادوا ارتكاب شيء يفرّق بين يوسف وأبيه عليهما السّلام تفرقة لا يحاول من جَرّائِهَا اقتراباً بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفْتَرَس .
وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد ، والإضرار بالغير ، وانتهاك ما أمر الله بحفظه ، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباط .
وانتصب { أرضاً } على تضمين { اطْرَحوه } معنى أوْدعوه ، أو على نزع الخافض ، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأنّ { أرضاً } اسم مكان فلما كان غيرَ محدود وزاد إبهاماً بالتّنكير عومِلَ معاملة أسماء الجهات ، وهذا أضعف الوجوه . وقد علم أنّ المراد أرض مجهولة لأبيه .
وجَزم { يَخْلُ } في جواب الأمر ، أي إنْ فعلتم ذلك يخلُ لكم وجه أبيكم .
والخلوّ : حقيقته الفراغ . وهو مستعمل هنا مجازاً في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له ، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه .
واللاّم في قوله { لكم } لام العلة ، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم ، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم .
وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك .
وعطف { وتكونوا من بعده } أي من بعد يوسف عليه السّلام على { يخل } ليكون من جملة الجواب للأمر . فالمراد كونٌ ناشيء عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي ، أيْ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم ، وليس المراد الصلاح الديني .
وأنّما لم يدبروا شيئاً في إعدام أخي يوسف عليه السّلام شفقةً عليه لصغره .
وإقحام لفظ { قوماً } بَيْنَ كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) وعند قوله تعالى : { وما تغني الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون } في سورة يونس ( 101 ) .
وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء ، وكبيرة العقوق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.