اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ} (9)

{ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً } الآية .

في نصب " أرْضاً " ثلاثة أوجه :

أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً ، أي : في أرض ؛ كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وقول الشاعر : [ الكامل ]

3052 لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ *** فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ

وإليه ذهب ابن عطيَّة .

قال النَّحاس : " إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً ؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بالحرف ، فإذا حذفت الحرف ، تعدَّى الفعل إليه " .

والثاني : النصب على الظرفيَّة .

قال الزمخشريُّ : " أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها ، وأخلائها من النَّاسِ ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه ، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة " .

وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال : " وذلك خطأ ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ ، أو قاصية أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامُهَا ، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض ، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة ، غير التي هو فيها قريبة من أبيه " .

واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد ، وقال : " وهذا الردُّ صحيحٌ ، لو قلت : " جَلستُ داراً بعيدة ، أوْ مكاناً بعيداً " لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها ، إلا في ضرورة شعرٍ ، أو مع " دخلْت " على الخلاف في " دَخلت " أهي لازمة أم متعدِّية " .

وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه ، و " أرضاً " في الآية الكريمة من هذا القبيل .

الثالث : أنها مفعول ثان ، وذلك أن معنى : " اطْرحُوهُ " أنزلوه ، و " أنزلوه " يتعدى لاثنين ، قال تعالى :

{ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [ المؤمنين : 29 ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ . والطَّرح : الرَّميُ ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الوردِ : [ الطويل ]

3053 ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً *** مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ

والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه ، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ .

و " يَخْلُ لكُمْ " جوابٌ الأمر ، وفيه الإظهار والإدغام ، وتقدَّم تحقيقها عند قوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً } [ آل عمران : 85 ] .

قوله : { وَتَكُونُواْ } يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله ، أو منصوباً بإضمار " أن " بعد الواو في جواب لأمر .

فصل

اعلم : أنَّه لما قوي الحسد ، وبلغ النِّهاية ، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التَّغريب ، ثم ذكروا العلَّة فيه ، وهي قوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده ، أقبل علينا بالميل والمحبَّة ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد قتل يوسف ، { قَوْماً صَالِحِينَ } : أي : نتُوب بعد قتلهِ .

وقيل : يصلُح شأنكم ، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم ، واختلفُوا في قائل هذا القول .

فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً ؛ فأشار عليهم بقتله ، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته .

وقيل : القائل بعض إخوته ، واختلفوا فيه .

فقال وهب : شمعون ، وقال كعب : دان ، وقال مقاتل : رُوبيل .

فإن قيل : كيف يليق هذا بهم ، وهم أنبياء ؟

فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا ، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح .

وأيضا : فإنَّهم قالوا : { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين ، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان ، وأيضاً : قولهم : { ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] والصغير لا ذنب له .

فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم ، والكيد معهُ ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير ، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء ، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة .