المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ} (9)

وقوله : { اقتلوا يوسف } الآية ، كانت هذه مقالة بعضهم . { أو اطرحوه } معناه : أبعدوه ، ومنه قول عروة بن الورد :

ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً*** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح{[6569]}

والنوى : الطروح البعيدة ، و { أرضاً } مفعول ثان بإسقاط حرف الجر ، لأن طرح - لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك . وقالت فرقة : هو نصب على الظرف - وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه{[6570]} .

وقوله : { يخل لكم وجه أبيكم } استعارة{[6571]} ، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم ، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه : الثكل أرأمها{[6572]} ، أي عطفها عليه ، والضمير في { بعده } عائد على يوسف أو قتله أو طرحه ، و { صالحين } قال السدي ومقاتل بن سليمان : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم ، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء ، وقال الجمهور : { صالحين } معناه بالتوبة ، وهذا هو الأظهر من اللفظ ، وحالهم أيضاً تعطيه ، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة ؛


[6569]:وروي: "من المال" بدلا من "يغرر"، ومقتر: مقل فقير، يقول: من كان مثلي فقيرا عليه أن يطلب رزقه في كل مكان، وأن يلقي نفسه في كل مطرح مهما كان بعيدا، وعروة من الشعراء الصعاليك، دفعه إلى ذلك اضطهاد أبيه له، وتفضيله أخاه الأكبر عليه، وقد احتقره قومه لهبوط منزلة أمه في النسب عن منزلة أبيه فزاده ذلك بعدا عنهم وإقبالا على الفروسية والصعلكة.
[6570]:يقول الزمخشري: هي أرض منكورة مهجورة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة.
[6571]:ذكر "الوجه" لتصوير معنى الإقبال عليهم لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه، وفي الألوسي أنها كناية عن خلوص المحبة.
[6572]:نص المثل كما رواه الميداني في "مجمع الأمثال": (تكل أرأمها ولدا). قاله بيهس الملقب بنعامة لأمه حين رجع إليها بعد إخوته الذين قتلوا، وكان بيهس رجلا من فزارة، وكان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم ناس من أشجع فقتلوا منهم ستة وبقي بيهس وهو أصغرهم، فقالوا: وما تريدون من قتل هذا؟ يحسب عليكم برجل، فلما رجع إلى أمه أخبرها الخبر، فقالت: فما جاءني بك من بين إخوتك؟ ثم رقت له، وعطفت عليه، فقال الناس: لقد أحبت أم بيهس بيهسا، فقال بيهس: (ثكل أرأمها ولدا)، أي: عطفها على ولد، فذهبت مثلا.