قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } ، أي : لا تتجاوزوا الحد ، والغلو ، والتقصير ، كل واحد منهما مذموم في الدين ، وقوله : { غير الحق } ، أي : في دينكم المخالف للحق ، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ، ثم غلوا فيع بالإصرار عليه . قوله تعالى : { ولا تتبعوا أهواء قوم } ، والأهواء جمع الهوى ، وهو ما تدعو إليه شهوة النفس .
قوله تعالى : { قد ضلوا من قبل } ، يعني : رؤساء الضلالة في فريقي اليهود والنصارى ، والخطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم .
قوله تعالى : { وأضلوا كثيراً } ، يعني من اتبعهم على أهوائهم .
قوله تعالى : { وضلوا عن سواء السبيل } ، عن قصد الطريق ، أي : بالإضلال ، فالضلال الأول من الضلالة ، والثاني بإضلال من اتبعهم .
{ 77 - 81 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل ، وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم .
وكغلوهم في بعض المشايخ ، اتباعا ل { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } أي : تقدم ضلالهم .
{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين ، الذي هم عليه . { وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية ، وآرائهم المضلة .
ثم أمر تعالى نبيه محمداً أن ينهاهم عن الغلو في دينهم ، والغلو تجاوز الحد ، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد{[4647]} ، وتلك المسافة هي غلوته{[4648]} ، وكما كان قوله { لا تغلوا } بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب { غير } وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو ، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم ، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه ، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل ، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم ، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم ، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى ، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج ، هذه طريقة فلان ، تمثله بآخر قد اعوج نوعاً آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً وأضلوا كثيراً من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى : { وضلوا عن سواء السبيل } وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل ، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد ، وأضلوا كثيراً من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق .
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء . والغلوّ مصدر غَلا في الأمر : إذا جاوزَ حدّه المعروف . فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع .
وقوله : { غيرَ الحقّ } منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل { تغلوا } أي غلوّاً غير الحقّ ، وغير الحقّ هو الباطل . وعدل عن أن يقال باطلاً إلى { غيرَ الحق } لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف . والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم ؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم . وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازاً عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } في سورة النّساء ( 171 ) . فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام . ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمداً . ومن الغلوّ الّذي ليس باطلاً ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه .
وقوله : { ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل } عطف على النّهي عن الغلوّ ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل . فلذلك سمّي تغاليهم أهواء ، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل ( قيافا ) حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل ، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث .
وقوله { من قبلُ } معناه من قبِلكِم . وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ ، وأسماء الجهات ، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت . وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة ، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة .
وقوله : { وضلّوا عن سواء السّبيل } مقابل لقوله : { قد ضلّوا من قبلُ } فهذا ضلال آخر ، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام . والسواء المستقيمُ ، وقد استعير للحقّ الواضح ، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام .
وقيل : الخطاب بقوله : { يأهل الكتاب } للنّصارى خاصّة ، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث ، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود . ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم ؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود ، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال .