اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (77)

لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى ، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا ، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ ، فقال تعالى : { يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } ، أي : لا تتجاوَزُوا الحَدَّ ، والغُلُوُّ نَقيضُ التَّقْصِير ، ومعْنَاهُ : الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ .

قوله تعالى : " غَيْرَ الحَقِّ " : فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ ، أي : غُلُوًّا باطلاً ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .

الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في " تَغْلُوا " ، أي : لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ ، ذكره أبو البقاء{[12378]} .

الثالث : أنه حالٌ من " دينكُمْ " ، أي : لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ : حقٌّ ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه ، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه ، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه ، وغُلُوٌّ باطلٌ ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة " .

الرابع : أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل .

الخامس : على الاستثناء المنقطع ، ذكر هذين الوجهين أبو حيان{[12379]} عن غيره ، واستبعدَهُما ؛ فإنه قال : وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ ، ويقدِّره ب " لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ " قال شهاب الدين{[12380]} : والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه ، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى : " في دينكُمْ " ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه ، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له .

وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء ، فقال : وانتصابُ " غَيْرَ الحَقِّ " من وجهين :

أحدهما : الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ ؛ لأنهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه .

والثاني : أن يكون منصوباً على الاستثناء ، فيكون " الحَقّ " مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه ؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه ، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو " دِينُكُمْ " .

وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [ الآية 171 ] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ : أنَّ " تَغْلُوا " فعلٌ لازمٌ ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء{[12381]} ، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ ، قال الراغب{[12382]} : الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ " غَلاَءً " ، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ " غُلُوًّا " ، وفي السهم " غَلْواً " ، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو ؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب " غَيْرَ الحَقِّ " مفعولاً به ، أي : لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ ، فإنْ فسَّرنا " تَغْلُوا " بمعنى تتباعَدُوا من قولهم : " غَلاَ السَّهْمُ " ، أي : تباعدَ كان قَاصِراً ، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ ، أخذه من هذا لا من الأوَّل .

فصل في معنى الآية

قال بعضُ المُفَسِّرين{[12383]} : معنى قوله " غَيْر الحَقِّ " أي : في دينِكُمُ المُخالِف للحَقِّ ؛ لأنَّهُمْ خَالَفُوا الحقَّ في دينهِمْ ، ثُمَّ غَلَوْا فيه بالإصْرَار عَليْه .

وقال ابْنُ الخَطيبِ{[12384]} : مَعْنَى الغُلُّو الباطل : أن تَتَكَلَّفَ الشُّبَهَ وإخْفَاءَ الدَّلائلِ ، وذلك الغُلُوُّ أنَّ اليهُودَ - لعنُهُم اللَّهُ - نَسَبُوا سَيِّدنَا عيسَى - عليه الصلاة والسلام - إلى الزِّنَا وإلى أنَّهُ كَذَّابٌ والنَّصارى - لعنهم اللَّهُ - ادَّعَوا فيه الإلَهِيَّةِ .

قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } الآية .

الأهْوَاء : جمْعُ الهَوَى ، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ .

والمراد هَاهُنَا : المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة .

قال الشَّعْبِيُّ{[12385]} : ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ .

قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [ ص : 26 ] ، { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [ طه : 16 ] ، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ النجم : 3 ] ، { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] .

قال أبُو عُبَيْدٍ{[12386]} : لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ ، لا يقال : فلانٌ يَهْوَى الخَيْر ، إنما يقال : يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ .

وقال بعضُهم{[12387]} : الهَوَى إلهُ يعبدُونَهُ من دُونِ اللَّهِ .

وقيل : سُمِّي الهَوَى هَوى ؛ لأنَّهُ يَهْوِي بَصَاحِبِه في النَّارِ وأنْشَدُوا في ذَمِّ الهَوَى قوله : [ الكامل ]

إنَّ الهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ *** فَإذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا{[12388]}

وقالَ رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهُمَا - : الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل هَوَايَ على هواك ، فقال ابنُ عبَّاس : " كُلَّ هوى ضلالةٌ " {[12389]} .

قوله تعالى : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } في نصب " كثيراً " وجهان :

أحدهما : أنه مفعولٌ به ، وعلى هذا أكثرُ المتأوِّلين ؛ فإنهم يفسِّرونه بمعنى : وأضلُّوا كَثِيراً مِنْهُمْ أو مِنَ المُنَافِقِينَ .

والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرية ، أي : نعت لمصدرٍ محذوف ، أي : إضلالاً كثيراً ، وعلى هذا ، فالمفعولُ محذوف ، أي : أضَلُّوا غَيْرَهُمْ إضْلالاً كَثِيراً .

فصل

اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل .

والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم ، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم ، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا ، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى ، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها - .

ويحتَملُ أن يكُون المُرَادُ أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا ، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ .


[12378]:ينظر: الإملاء 1/223.
[12379]:ينظر: البحر المحيط 3/547.
[12380]:ينظر: الدر المصون 2/586.
[12381]:ينظر: الإملاء 1/223.
[12382]:ينظر: المفردات 377.
[12383]:ينظر: تفسير البغوي 2/55.
[12384]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 12/53.
[12385]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 12/53.
[12386]:ينظر: المصدر السابق.
[12387]:ينظر: المصدر السابق.
[12388]:البيت في الرازي الموضع السابق.
[12389]:ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" (12/53) عن ابن عباس.