البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (77)

{ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتناول من جاء بعدهم .

ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى ، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين .

وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل ، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه ، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى .

قال الزمخشري : الغلو في الدين غلوان : غلو حق ، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى .

وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة ، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة ، ومن عدا المعتزلة .

ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى ، وادعاؤهم فيه أنه الله .

ومن غلوّ النصارى ما تقدّم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله ، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة .

وانتصاب غير هنا على الصفة أي : غلوّاً غير الحق .

وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره : لكن الحق فاتبعوه .

{ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط ، بل هو سواء معتدل خيار .

وقيل : الخطاب للنصارى ، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال : قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيراً ممن شايعهم على التثليث ، وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه .

وقال ابن عطية : هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل ، بل هم في الضد بالأقوال ، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى .

فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج : هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعاً من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله .

ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً ، وأضلوا كثيراً من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله : وضلوا عن سواء السبيل .

وذهب بعض المتأولين إلى أنّ المعنى : يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي : ضل أسلافهم ، وهم قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيراً من المنافقين ، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى .

ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي : اليهود ، والنصارى .

وأن قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم ، هم أسلافهم .

فإن الزائغ عن الحق كثيراً ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته ، كما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } فنهوا عن اتباع أسلافهم ، وكان في تنكير قوم تحقير لهم .

وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه .

وما ذهب إليه ابن عطية أيضاً تخصيص وتأويل بعيد في قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود ، وأن المعنى : لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى ، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم .

وأبعد من ذهب إلى أنّ الضلال الأول عن الدّين ، والثاني عن طريق الجنة .