قوله تعالى : { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً } ، الآية . قال أهل التفسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان ، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ، ودعا الناس إلى عبادته ، وكان له كهان ومنجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ، ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام ، وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع ، فذهب بضوء الشمس والقمر ، حتى لم يبق لهما ضوء ، ففزع من ذلك فزعاً شديداً ، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة ، فيكون هلاكك ، وهلاك ملكك ، وأهل بيتك على يديه ، قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وجعل على كل عشرة رجلاً ، فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها ، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض ، فإذا طهرت حال بينهما ، فرجع آزر ، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض ، فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام . وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية ، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام ، فإنه لم يعلم بحبلها ، لأنها كانت جارية حديثة السن ، لم يعرف الحبل في بطنها ، وقال السدي : خرج نمرود بالرجال من المعسكر ، ونحاهم عن النساء تخوفاً من ذلك المولود أن يكون ، فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم بدت له حاجة إلى المدينة ، فلم يأتمن عليها أحداً من قومه إلا آزر ، فبعث إليه ، ودعاه ، وقال له : إن لي أريد أن أوصيك بها ، ولا أبعثك إلا لثقتي بك ، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ، فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته ، فدخل المدينة ، وقضى حاجته ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم ، فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة ، فأمر نمرود بقتل الغلمان ، فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض ، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها ، فيقتل ولدها ، فوضعته في نهر يابس ، ثم لفته في خرقة ، ووضعته في حلفاء ، فرجعت ، فأخبرت زوجها بأنها ولدت ، وأن الولد في موضع كذا وكذا ، فانطلق أبوه ، فأخذه من ذلك المكان ، وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه ، وسد عليه بابه بصخرة ، مخافة السباع ، وكانت أمه تختلف إليه ، فترضعه ، وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها ، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام ، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ، ورجعت إلى بيتها ، ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل ، فتجده حياً يمص إبهامه . قال أبو روق : قالت أم إبراهيم ذات يوم : لأنظرن إلى أصابعه ، فوجدته يمص من أصبع ماءً ، ومن أصبع لبناً ، ومن أصبع عسلاً ، ومن أصبع تمراً ، ومن أصبع سمناً . وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت : قد ولدت غلاماً فمات ، فصدقها ، فسكت عنها ، وكان اليوم على إبراهيم في النشوء كالشهر ، والشهر كالسنة ، فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمه أخرجيني ، فأخرجته عشاءً ، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني ، وأطعمني ، وسقاني ، لربي الذي مالي إله غيره ، ثم نظر إلى السماء ، فرأى كوكباً فقال : هذا ربي ، ثم أتبعه بصره ، ينظر إليه حتى غاب ، فلما أفل ، قال : لا أحب الآفلين ، ثم رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي ، ثم أتبعه ببصره حتى غاب ، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته ، وعرف ربه ، وبرئ من دين قومه ، إلا أنه لم ينادهم بذلك ، فأخبره أنه ابنه ، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه ، فسر آزر بذلك ، وفرح فرحاً شديداً ، وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، قالوا : فلما شب إبراهيم عليه السلام ، وهو في السرب قال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي ؟ قالت : نمرود ، قال : فمن ربه ؟ قالت له : اسكت فسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ، ثم أخبرته بما قال ، فأتاه أبوه آزر ، فقال له إبراهيم عليه السلام : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا . قال : فمن ربك ؟ قال : نمرود . قال : فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له : اسكت ، فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة ، فأبصر كوكباً ، قال : هذا ربي . ويقال : إنه قال لأبويه أخرجاني ، فأخرجاه من السرب ، وانطلقا به حين غابت الشمس ، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم ، فسأل أباه ما هذه ؟ فقال : إبل ، وخيل ، وغنم ، فقال : ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ، ثم نظر ، فإذا المشتري قد طلع ، ويقال : الزهرة ، فكان تلك الليلة في آخر الشهر ، فتأخر طلوع القمر فيها ، فرأى الكوكب قبل القمر ، فذلك قوله عز وجل : { فلما جن عليه الليل } أي : دخل الليل ، يقال : جن الليل ، وأجن الليل ، وجنه الليل ، وأجن عليه الليل ، يجن جنوناً وجناناً ، إذا أظلم وغطى كل شيء ، وجنون الليل سواده ، { رأى كوكباً } قرأ أبو عمرو ( رأى ) بفتح الراء ، وكسر الألف ، ويكسرهما ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر ، وإن لقيهما ساكن كسر الراء ، وفتح الهمزة حمزة ، وأبو بكر ، وفتحهما الآخرون .
قوله تعالى : { قال هذا ربي } . واختلفوا في قوله ، ذلك : فأجراه بعضهم على الظاهر ، وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام مسترشداً ، طالباً للتوحيد ، حتى وفقه الله تعالى ، وآتاه رشده ، فلم يضره ذلك في حال الاستدلال ، وأيضاً كان ذلك في حال طفولته ، قبل قيام الحجة عليه ، فلم يكن كفراً ، وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد ، وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء ، وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله ، وطهره ، وآتاه رشده . من قبل ، وأخبره عنه ، وقال : { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات :84 ] وقال : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن ، فلما أيقن رأى كوكباً قال : هذا ربي معتقدا ؟ فهذا ما لا يكون أبداً . ثم قال : فيه أربعة أوجه من التأويل : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ، ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها ، فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ، ليثبت خطأ ما يدعون ، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم ، فأظهر تعظيمه فأكرموه ، حتى صدروا في كثر من الأمور عن رأيه ، إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره ، فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا حوله يتضرعون ، فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه ، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون ، فأسلموا . والوجه الثاني من التأويل : أنه قال على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي ؟ كقوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } [ الأنبياء :34 ] أي : أفهم الخالدون ؟ وذكره على وجه التوبيخ ، منكراً لفعلهم ، يعني : أمثل هذا يكون رباً ؟ أي : ليس هذا ربي ؟ والوجه الثالث : أنه ذكره على وجه الاحتجاج عليهم ، يقول : هذا ربي بزعمكم ، فلما غاب قال : لو كان إلهاً لما غاب ، كما قال : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكما أخبر عن موسى أنه قال : { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه } [ طه :97 ] يريد إلهك بزعمك . والوجه الرابع فيه إضمار ، وتقديره : يقولون هذا ربي ، كقوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } ، [ البقرة :127 ] أي : يقولان ربنا تقبل منا .
قوله تعالى : { فلما أفل قال لا أحب الآفلين } ، وما لا يدوم .
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي : أظلم { رَأَى كَوْكَبًا } لعله من الكواكب المضيئة ، لأن تخصيصه بالذكر ، يدل على زيادته عن غيره ، ولهذا -والله أعلم- قال من قال : إنه الزهرة .
{ قَالَ هَذَا رَبِّي } أي : على وجه التنزل مع الخصم أي : هذا ربي ، فهلم ننظر ، هل يستحق الربوبية ؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك ؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه ، بغير حجة ولا برهان .
{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي : غاب ذلك الكوكب { قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي : الذي يغيب ويختفي عمن عبده ، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده ، ومدبرا له في جميع شئونه ، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب ، فمن أين يستحق العبادة ؟ ! وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه ، وأبطل الباطل ؟ !
{ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي تفصيل وبيان لذلك . وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال ، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله : { هذا ربي } على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد ، أو على وجه النظر والاستدلال ، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه . { فلما أفل } أي غاب . { قال لا أحب الآفلين } فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمام والحدوث وينافي الألوهية .
{ فلمَّا جنّ } تفريع على قوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] بقرينة قوله : { رأى كوكباً } فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات ، وقولِه في المعطوف عليه { نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] . فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه مُلجىء إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم ، هي فرع من تلك الإراءة التي عمَّت ملكوت السماوات والأرض ، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتِّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب ، ولذلك نعُدّ جعل الزمخشري { فلما جنّ } عطفاً على { قال إبراهيم لأبيه } [ الأنعام : 74 ] ، وجعْله ما بينهما اعتراضاً ، غيرَ رشيق .
وقوله : { جَنّ عليه الليل } أي أظلم الليل إظلاماً على إبراهيم ، أي كان إبراهيم محوطاً بظلمة الليل ، وهو يقتضي أنَّه كان تحت السَّماء ولم يكن في بيت .
ويؤخذ من قوله بعده { قال يا قوم إنِّي بريء مِمَّا تشركون } أنَّه كان سائراً مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب ، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها أصناماً . وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم .
يقال : جَنَّة الليل ، أي أخفاه ، وجَنان الليل بفتح الجيم ، وجنُّه : ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد . يقال : جنَّة الليل ، وهو الأصل . ويقال : جَنّ عليه الليل ، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتَّى صارت كأنَّها غطاء ، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جنّ اللَّيل قاصراً بمعنى أظلم .
وظاهر قوله : { رأى كوكباً } أنَّه حصلت له رؤية الكواكب عَرَضاً من غير قصد للتأمّل وإلاّ فإنّ الأفق في الليل مملوء كواكبَ ، وأنّ الكواكب كان حين رآه واضحاً في السماء مشرقاً بنوره ، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء . فالظاهر أنَّه رأى كوكباً من بينها شديد الضوء . فعن زيد بن علي أنّ الكوكب هو الزهرة . وعن السدّي أنَّه المشتري . ويجوز أن يكون نَظَر الكواكب فرأى كوكباً فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل { أننِ اضربْ بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، أي فضرب فانفلق . وجملة { رأى كوكباً } جواب { لمَّا } . والكوكب : النجم .
وجملة : { قال هذا ربِّي } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن مضمون جملة { رأى كوكباً } وهو أن يسأل سائل : فماذا كان عندما رآه ، فيكون قوله : { قال هذا ربِّي } جوباً لذلك .
واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكنْ إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس { هذا ربِّي هذا ربِّي } يعيّن أنّ يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمراً مطلوباً مبحوثاً عنه فإذا عُثر عليه أشير إليه ، وذلك كالإشارة في قوله تعالى : { لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث } [ الروم : 56 ] ، وقوله : { قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه }
[ يوسف : 32 ] ولم يقل فهو الذي لمتنني . ولعلّ منه قوله : { هذه بضاعتُنا رُدّت إلينا } [ يوسف : 65 ] إذ لم يقتصروا على « بضاعتُنا ردّت إلينا » . وفي « صحيح البخاري » قال الأحنف بن قيس : « ذَهَبْتُ لأنْصُر هذا الرجل » ( يعني عليّ بن أبي طالب ) ولم يتقدّم له ذكر ، لأنّ عليّاً وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفّين ، وسيأتي قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] يعني كفَّار قريش ، وفي حديث سؤال القبر : " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " ( يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصحّ هنا أن يجعل مستعملاً في معنييه الصريح والكناية .
وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنَّه لم يقل : هذا ربّ . فدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنَّه لا يَرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحداً من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله .
وظاهر قوله { قال } إنَّه خاطب بذلك غيره ، لأنّ القول حقيقته الكلام ، وإنَّما يساق الكلام إلى مخاطب . ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذْ رُتِّب قوله { فلما جنّ } على قوله : { وكذلك نري إبْراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] ورتّب ذلك كلّه على قوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتَّخذ أصناماً آلهة } [ الأنعام : 74 ] الآية ، ولقوله تعالى : { قال هذا ربِّي } وإنَّما يقوله لمخاطب ، ولقوله عقب ذلك { يا قوم إنِّي بريء ممَّا تشركون } ، ولأنَّه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدلّ به على براءته ممَّا يشركون مع أنَّه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لولا أنّ ذلك هو مدّعى قومه ؛ فدلّ ذلك كلّه على أنّ إبراهيم عليه السلام قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقّي الحجّة ولا ينفِروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعاً من قومه وأراد الاستدلال عليهم .
وقوله : { هذا ربِّي } أي خالقي ومدبِّري فهو مستحقّ عبادتي . قاله على سبيل الفرض جرياً على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنَّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكُرّ عليهم بالإبطال إظهاراً للإنصاف وطلب الحقّ . ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كُفر على لسانه عليه السلام لأنَّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر ، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده ، ولا يزيد قولُه هذا قومَه كفراً ، كالذي يُكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبُه مطمئنّ بالإيمان فإنَّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النَّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى .
وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي .
وعلى هذا فالآية تقتضي أنّ قومه يعبدون الكواكب وأنَّهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعاً في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام وأنّ الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيلُ لها على حسب تخيّلاتهم وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء ، ويحتمل أنَّهم عبدوا الكواكب وعبدوا صوراً أخرى على أنَّها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة . على أنّ الصابئة يعتقدون أنّ للكواكب روحانيات تخدمها .
وأفل النجم أفولاً : غاب ، والأفول خاصّ بغياب النيِّرات السماوية ، يقال : أفلّ النجم وأفَلَتْ الشمس ، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب ورَاء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية ، فلا يقال : أفَلَتْ الشمس أو أفَل النجم إذا احتجب بسحاب .
وقوله : { لا أحبّ } الحبّ فيه بمعنى الرضى والإرادة ، أي لا أرضى بالآفِل إلهاً ، أو لا أريد الآفل إلَهاً . وقد علم أنّ متعلَّق المحبَّة هو إرادته إلَهاً له بقوله : { هذا ربِّي } . وإطلاق المحبَّة على الإرادة شائع في الكلام ، كقوله تعالى : { فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا } [ التوبة : 108 ] . وقدّره في « الكشَّاف » بحذف مضاف ، أي لا أحبّ عبادة الآفلين .
وجاء ب { الآفلين } بصيغة جمع الذكور العقلاء المختصّ بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أنّ الكواكب عاقلة متصرّفة في الأكوان ، ولا يكون الموجود معبوداً إلاّ وهو عالم .
ووجه الاستدلال بالأفوال على عدم استحقاق الإلهية أنّ الأفول مغيب وابتعاد عن الناس ، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلمَّا أفلّ النجم كان في حالة أفوله محجوباً عن الاطِّلاع على النَّاس ، وقد بنَى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيباً عن هذا العالم ، يعني أنّ ما يغيب لا يستحقّ أنْ يُتَّخذ إلهاً لأنَّه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه . وليس الاستدلال منظوراً فيه إلى التغيّر لأنّ قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغيّر وانتفاء صفة الإلهية ، ولأنّ الأفول ليس بتغيّر في ذات الكوكب بل هو عَرَض للأبصار المشاهِدة له ، أمَّا الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعاً لهم .
ولأجل هذا احتجّ بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإنّ البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكنْ الأفول السابقُ غيرُ مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول : إنّ هذا البازغ كان من قَبلُ آفِلاً .