غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

74

{ فلما جن عليه الليل } قال في الكشاف : إنه معطوف على قوله { وإذ قال إبراهيم } وقوله { وكذلك نرى } جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه . يقال : جن عليه الليل وأجنه الليل . والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين . وقيل : جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على » . وأما «أجنة » فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم . واعلم أن كثيراً من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه ، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه . وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها : من ربي ؟ فقالت : أنا . فقال : من ربك ؟ فقالت : أبوك . فقال لأبيه : من ربك ؟ فقال : ملك البلد . فعرف إبراهيم جهلهما بربهما . فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة . ثم منهم من قال : كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف ، ومنهم من قال : كان هذا قبل البلوغ . وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق . ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مراراً بقوله { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] الآيات . وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن ، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة . ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله { فلما جن } ومنها أنه تعالى وصفه بقوله { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] ومدحه بقوله { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } [ الأنبياء : 5 ] أي من أول زمان الفطرة . ومنها قوله عقيب هذه القصة { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولم يقل «على نفسه » . ومنها أنه قال بعد القصة { يا قوم إني بريء مما تشركون } مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم . ومنها قوله { وحاجة قومه } وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال { لا أحب الآفلين } رداً وتنبيهاً على فساد قولهم ، ويؤكده قوله { كيف أخاف ما أشركتم } لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ، وكان ينبغي أن يستدل أوّلاً بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم . والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلعت الشمس . ثم هاهنا احتمالان : الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله ، مثاله : أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركباً متغيراً . فقولك «الجسم قديم » إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه ، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم : الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده . قال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي } [ القصص : 62 ] وقال { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : «يا إله الآلهة في زعمهم » أو المراد منه لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام ، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا } [ البقرة : 127 ] أي يقولان ربنا { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم } [ الزمر : 3 ] أي يقولون : ما نعبدهم { إلا ليقربونا } [ الزمر : 3 ] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء ، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم مع أن إبراهيم كان مطمئناً بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقاً سوى ذلك . وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى . قالت العلماء : إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر . ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فهاهنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم . وإن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [ الصافات : 88 ] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئاً عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام قال المتكلمون : إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية ، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذباً لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله { هذا ربي } لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزاً . الاحتمال الثاني : أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس { إني بريء مما تشركون } واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة ، لأن الإرهاص - وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى - جائز عندنا . ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول . قال في الكشاف : فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . وأنا أقول : الاحتجاج بالبزوغ في الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعاً لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال ، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغاً . ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات . وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم . وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى ، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات ، فيجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدأ بحال ، ويعلم من قوله { لا أحب الآفلين } أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائباً عنا فكان آفلاً ، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة . وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلى النظر والاستدلال .

/خ83