اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

قوله : " فَلَمَّا جَنَّ " يجوز أن تكون هذه الجملة نَسَقاً على قوله : " وإذْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ " عطفاً للدليل على مدلوله ، فيكون " وكَذلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ " معترضاً كما تقدم ، ويجوز أن تكون مَعْطُوفَةً على الجملة من قوله : " وكَذلِكَ نُري إبراهيم " .

قال ابن عطيَّة{[14340]} : " الفاء " في قوله : " فَلَمَّا " رَابِطَةٌ جملة ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التَّفْضِيلُ المذكور في هذه الآية ، والأوَّل أحسن ، وإليه نحا الزمخشري{[14341]} .

و " جَنَّ " : سَتَرَ وقد تقدم اشْتِقَاقُ هذه المادة عند ذكر { الْجَنَّةَ }

[ البقرة :35 ] وهنا خصوصية لذكر الفِعْلِ المسند إلى الليل يقال : جَنَّ عليه الليل ، وأجن عليه بمعنى : أظْلَمَ فيستعمل قاصراً ، وجَنَّةُ وأجَنَّةُ ، فيستعمل متعدياً فهذا مما اتفق فيه فَعَلَ وأفْعَلَ لزوماً وتعدياً إلا أن الأجْوَدَ في الاستعمال جَنَّ عليه الليل ، وأجنه الليل ، فيكون الثلاثيّ لازماً وأفعل متعدياً .

ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله : [ المتقارب ]

وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى *** وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأدْهَمُ{[14342]}

ومصدره جَنٌّ وجنان وجنون .

وفرق الرَّاغِبُ{[14343]} بين " جَنَّه " و " أجَنَّه " ، فقال : جنه إذا سترَهُ ، وأجنه جعل له ما يجنه ، كقولك : قَبَرْتُهُ وأقْبَرتُهُ ، وسَقَيْتُهُ وأسْقَيْتُهُ وقد تقدم لك شيء من هذا عند ذكر " حزن " و " أحزن " [ البقرة : 38 ] ويحتمل أن يكون " جنَّ " في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول فيها ، تقدير : جَنَّ عليه الأشْيَاء والمبصرات .

قوله : " رَأى كَوْكَباً " هذا جواب " لمَّا " ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلافٌ كبير بالنسبة إلى الإمالةِ وعدمها ، وتلخيصه أن " رأى " الثابت الألف فأمال رَاءَهُ وهمزته إمالة مَحْضَة{[14344]} الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأمال الهمزة منه فقط دون الراء أبو عَمْرٍو وبكماله ، وأمال السوسي بخلاف عنه عن ابن عَمْرٍو الراء أيضاً ، فالسوسي في أحد وَجْهَيْهِ يوافق الجماعة المتقدمين ، وأمال وَرْشٌ الراء والهمزة بَيْنَ بَيْنَ من هذا الحرف ، حيث وقع هذا كله ما لم يَتِّصِلْ به ضمير نحو ما تقدم ، فأما إن اتَّصَلَ به ضمير نحو :

{ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ } [ الصافات :55 ] { فَلَمَّا رَآهَا } [ النمل :10 ] { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ } [ الأنبياء :36 ] ، فابن ذكوان عنه وجهان ، والباقون على أصولهم المتقدمة .

وأما " رأى " إذا حذفت ألفه فهو على قسمين : قسم لا تعود فيه ألبتة لا وَصْلاً ولا وَقْفاً ، نحو : { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [ الفرقان :12 ]

{ رَأَوُاْ الْعَذَابَ } [ يونس :54 ] فلا إمالة في شيء منه ، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو : { رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإنسان :20 ] .

وقِسْمٌ حُذِفَتْ أله لالتِقَاءِ السَّاكنين وصْلاً ، وتعود وَقْفاً نحو :

{ رَأَى الْقَمَرَ } [ الأنعام :77 ] { رَأَى الشَّمْسَ } [ الأنعام : 78 ] { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } [ الكهف :53 ] { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ النحل :85 ] فهذا فيه خلاف أيضاً بين أهل الإمالة اعتباراً باللفظ تارة ، وبالأصل أخرى ، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عَاصِمٍ والسُّوسي بخلاف عنه وحده ، وأما الهمزة فأمَالَهَا مع الراء أبو بكر والسُّوسي بخلاف عنهما ، هذا كله إذا وصلت ، أما إذا وقفت فإن الألف تَرْجِعُ لعدم المُقْتَضِي لِحَذْفِهَا ، وحكم هذا الفعل حينئذ حكم ما لم يَتَّصِلْ به سَاكِنٌ فيعود فيه التَّفْصِيلُ المُتقدِّم ، كما إذا وقفت على " رأى " من نحو :

{ رَأَى الْقَمَرَ } [ الأنعام :77 ] . فأمَّا إمالة الرَّاء من " رأى " فلإتباعها لإمالة الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانْقِلابها عن الياء ، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثمَّ صحَّ أن يقال : أميلت الراء لإمالة الهمزة ، وأما تفصيل ابن ذَكْوَانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضمير وعدمه ، فوَجْهُهُ أن الفعل لما اتَّصَلَ بالضمير بعدت ألفه عن الظَّرْفِ ، فلم تُمَلْ .

ووجه من أمال الهمزة في " رَأى القَمَرَ " مُرَاعَاة للألف وإن كانت محذوفة ، إذ حذفها عَارِضٌ ، ثم منهم من اقْتَصَرَ على إمالة الهمزة ؛ لأن اعتبار وُجُودهَا ضعيفٌ ، ومنهم من لم يَقْتَصِرْ أعطى لها حكم الموجودة حَقِيقَةً ، فأتبع الراء للهمزة في ذلك .

والكوكب : النجم ، ويقال فيه كَوْكَبَةٌ .

وقال الراغب{[14345]} : " لا يقال فيه أي في النجم : كوكب إلا عند ظُهُوره " . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من مادة " وَكَبَ " فتكون الكَافُ زائدةً ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني{[14346]} قال رحمه الله تعالى : " حق كَوْكَب أن يُذكَرَ في مادة " وَكَبَ " عند حُذَّاق النحويين ، فإنها وردَتْ بكاف زائدةٍ عندهم ، إلا أنَّ الجوهري{[14347]} أوردها في تركيب " ك و ك ب " ولعلَّه تبع في ذلك اللَّيْثَ ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصْلِيَّةٌ " . فهذا تصريح من الصَّغَاني بزيادة الكاف ، وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز ، وحروف الزيادة مَحْصُورةٌ في تلك العشرة ، فأما قولهم : " هِنْدِيُّ وهِنْدِكيّ " بمعنى واحدٍ ، وهو المنسوب إلى " الهند " ، وقول الشاعر : [ الطويل ]

ومُقْرَبَةٍ دُهْمٍ وَكُمْتٍ كَأنَّهَا *** طَمَاطِمُ مِنْ فَوْقِ الوِفَازِ هَنَادِكُ{[14348]}

فظاهره زيادة الكاف ، ولكن خَرَّجَهَا النحويون على أنه من باب " سبط وسبطر " أي : مما جاء فيه لَفْظَان ، أحدهما أطول من الآخر ، وليس بأصْلٍ له ، فكما لا يُقَالُ : الراء زائدة باتِّفاقٍ ، كذلك هذه الكاف ، وكذلك قال أبو حيَّان : " وليت شعري ، من حُذَّاق النحويين الذين يَرَوْنَ زيادتها لاسيَّما أول الكلمة " .

والثاني : أن الكلمة كُلَّهَا أصُولٌ رباعية مما كُرِّرَتْ فيها الفاء ، فوزنها فَعْفَل ك " فَوْفَل " وهو بناء قليل .

والثالث : ساق الرَّاغب{[14349]} أنه من مادة : كَبَّ وكَبْكَبَ ، فإنه قال : والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيء في هُوَّة ، يقل : كَبَّ وكَبْكَبَ ، نحو : كَفَّ وكَفْكَفَ ، وصرَّ الريح وصَرْصَرَ .

والكواكب النجوم البادية ، فظاهر هذا السِّياقِ أن الواو زائدة ، والكاف بَدَلٌ من إحدى الياءين وهذا غريب جداً .

قوله : " قال هذا ربي " في " قال " ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه استئناف أخبر بذلك القول ، أو استفهم عنه على حسب الخلاف .

والثاني : أنه نعت ل " كَوْكَباً " فيكون في محلِّ نصب ، وكيف يكون نعتاً ل " كوكباً " ولا يساعد من حَيْثُ الصِّناعةِ ، ولا من حيث المعنى ؟ أما الصِّناعةُ فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة ؛ لأن ذلك خَاصٌّ بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حَذْفُ العائد من الصِّفة ، ويقلُّ من الخبر ، فلا يَلْزَمُ من جوازِ شيء في هذا جوازُهُ في شيء ، وادِّعاء حذف ضمير بعيد ، أي قال فيه : هذا رَبَّي ، وأمَّا المعنى فلا يُؤدِّي إلى أن التَّقدير : رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ ، وذلك غير مراد قطعاً .

والثالث : أنه جوابُ " فَلَمَّا جَنَّ " وعلى هذا فيكون قوله : " رأى كوْكَباً " في محل نصْبٍ على الحال ، فلما جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً و " هذا ربِّي " مَحْكِيٌّ بالقول ، فقيل : هو خبر مَحْضٌ بتأويل ذكره أهْلُ التفسير .

وقيل : بل هو على حَذْفِ همزة الاستفهام ، أي : أهذا ربي ، وأنشدوا : [ الطويل ]

لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً *** بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ{[14350]}

وقوله : [ المنسرح ]

أفْرَحُ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ *** أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ

وقوله : [ الطويل ]

طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ *** وَلاَ لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ{[14351]}

وقوله : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء :22 ] قالوا : تقديره أبسبع ؟ وأأفرح ؟ وأذو ؟ وأتلك ؟

قال ابنُ الأنْبَارِيّ : " وهذا لا يجوز إلا حَيْثُ يكون ثمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام ، إن دلَّ دليل لفظي كوجود " أم " في البيت الأول ، بخلاف ما بعده " . والأفُولُ : الغَيْبَةُ والذَّهَابُ ؛ يقال : أفَلَ يأفُلُ أفُولاً .

قال ذو الرمة : [ الطويل ]

مَصَابِيحُ لَيْسَتْ باللَّوَاتِي تَقُودُهَا *** نُجُومٌ ولا بالآفلاتِ شُمُوسُهَا{[14352]}

والإفَالُ : صِغَارُ الغَنَم .

والأفيلُ : الفَصِيلُ الضَّئِيلُ .

فصل في بيان رؤية الملك

قال أكثر المفسرين : أن مَلِكَ ذلك الزَّمانِ رأى رُؤيا وعبرها المعبرون بأنه يُوَلدُ غلام يكون هلاكُ مُلْكِهِ على يَدَيْهِ ، فأمر بذبح كُلِّ غلام يُولدُ ، فحملت أمُّ إبراهيم به ، وما أظهرت حَمْلَهَا للناس ، فلما جاءها الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إلى كَهْفٍ في جَبَلٍ ، ووضعت إبراهيم - عليه السلام - وسدَّت الباب بِحَجَرٍ فجاء - جبريل - عليه السلام - ووضع أصْبَعَهُ في فَمِهِ ، فخرج منه رِزْقُهُ ، وكان يتعَهَّدُهُ جبريل - عليه السلام - وكانت الأمُّ تأتيه أحياناً تُرْضِعُهُ ، وبقي على هذه الصفة حتى كَبِرَ وعَقِلَ ، وعرف أنه له رَبّاً ، فسأل أمه فقال لها : مَنْ رَبي ؟ قالت : أنا ، فقال : ومَنْ رَبُّك ؟ قالت : أبوك فقال : ومن رَبُّ أبي ؟ فقالت : مَلِكُ البلد .

فعرف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - جَهَالتها بربها ، فنظر من باب ذلك الغارِ ليرى شيئاً يَسْتَدِلُّ به على وجود الرَّبِّ -سبحانه وتعالى- فرأى النَّجْمَ الذي كان هو أضْوَءَ نجم في السماء{[14353]} .

فقيل : كان المشتري ، وقيل : كان الزهرة ، فقال : هذا ربِّي إلى آخر القِصَّةِ .

ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : هذا كان بعد البُلُوغِ ، ومنهم من قال : كان هذا قَبْلَ البُلُوغِ والتكليف ، واتَّقَقَ أكثر المحققين{[14354]} على فَسَادِ هذا القول .

وقالوا : لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف ، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ ، وأخبر عنه فقال تعالى : { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] .

وأراه ملكوت السماوات والأرض ، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال : " هذا ربي " معتقداً فهذا لا يكون أبداً .

واحتجوا بوجوه :

أحدها : أن القول بِرُبُوبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع{[14355]} ، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع .

والثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان قد عرف رَبَّهُ قَبْل هذه الواقعة بالدليل ؛ لأنه أخبر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام :74 ] .

الثالث : حكي عنه أنه دعا أباه إلى التَّوحيد ، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم :42 ] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد ، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشنِ ، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله ، فإنه يُقَدِّمُ الرِّفقَ على العُنْفِ ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام ، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً ، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهِمِّ نفسه ، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السماوات والأرض ، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك ، وعلمه بالله كذلك ، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ ؟

الرابع : أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة ، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ ، وأعْلَمِ العلماء ؟

الخامس : أنه قال في صفته { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات :84 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء :51 ] أي : آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله { وكنا به عالمين } أي بطهارته وكماله ، ونظيره قوله تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام :124 ] .

السادس : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } أي : بسب بتلك الإراءة يكون من الموقنين ، ثم قال بعده : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْل } و " الفاء " تقتضي الترتيب ، فدلَّت الفاء في قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْل } على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ .

السابع : أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه ، لأنه -تعالى- لما ذكر هذه القصة قال : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [ الأنعام :83 ] ولم يقل : على نفسه ، فعلم أن هذه المُبَاحَثَة إنما جَرَتْ مع قومه ؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد ، لا لأجلِ أن إبراهيم - عليه السلام - كان يطْلُبُ الدِّينَ والمعرفة لنفسه .

الثامن : أن قولهم : إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل ؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك ، فكيف يقول : يا قوم إني بَريءٌ مما تشركون ، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ .

التاسع : قوله : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }

[ الأنعام :80 ] .

فكيف يُحَاجُّونه وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم ، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشتغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه ، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام ، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا ، فقال : { لا أحِبُّ الآفلينَ } ردَّا عليهم ، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم .

العاشر : أنه -تعالى- حُكِيَ عنه أنه قال للقوم : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ } [ الأنعام :81 ] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عليه الصلاة والسلام : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }

[ هود :54 ] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ .

الحادي عشر : أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار ، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم ، ثم غَرَبَتْ ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية ، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى{[14356]} .

هذا إذا قلنا : إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه ، أما إذا قلنا : المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ ، فهذا السؤال غير وَاردٍ ، لأنه يمكن أن يقال : إنه إنما اتَّفقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم ، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر ، وطلع الشمس بعده ، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال : إن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قال على سبيل الجَزْمِ " هذا ربي " ، وإذا بطل هذا بقي ها هنا احْتِمَالانِ :

الأول : أن يقال : هذا كلام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بعد البلوغ ، ولكن ليس الغَرَضُ منه إثبات رُبُوبيَّةِ الكواكب ، بل الغرض منه أحد أمور ستة{[14357]} :

أولها : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لم يقل : " هذا ربي " على سبيل الإخبار ، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب ، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ ، فذكر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم ، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ ، فيقول : الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه ؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً ؟ فقوله : الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْمِ حتى يلزم المُحَال عليه ، فكذا هاهنا قال : " هَذَا ربِّي " حكايةً لقول الخَصْمِ ، ثم ذكر عَقِيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده ، وهو قوله : { لا أُحِبُّ الآفِلِين } ، ويؤيد هذا أنه -تعالى- مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } .

وثانيها : أن قوله تعالى : " هَذَا رَبِّي " في زعمكم واعتقادكم ، فلما غاب قال : لو كان إلهاً لما غاب كما قال : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان :49 ] ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكقوله تعالى :

{ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه :97 ] يريد إلهك بزعمك ، وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ } [ القصص :62 ] أي : في زعمهم .

وثالثها : أن المراد منه الاسْتِفْهَامُ على سبيل الإنكار ، تقديره : أهَذَا ربِّي ، إلا أنه أسقط حرف الاسْتِفْهَام اسْتِغْنَاءً لدلالة الكلام عليه ، كقوله { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون } [ الأنبياء :34 ] .

ورابعها : أن يكون القول مُضْمراً فيه ، والتقدير : يقولون : هذا رَبِّي ، وإضمار القول كثير كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا } [ البقرة :127 ] أي يقولون : ربنا ، وقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر :3 ] أي : يقولون : ما نعبدهم ، فكذا ها هنا تقديره : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال لقومه : يقولون : هذا ربي ، أي : هذا الذي يُدَبِّرُني ويُرَبِّيني .

خامسها : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ذكر هذا الكلام على سبيل الاسْتِهْزَاءِ .

سادسها : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مَأمُوراً بالدعوة ، فأراد أن يَسْتَدْرِجَ القوم بهذا القول ، ويعرفهم خَطَاهُمْ وجَهْلهُمْ في تعظيم ما عَظَّمُوهُ ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، فذكر كلاماً يُوهِمُ كونه مُسَاعداً لهم على مَذْهَبِهِمْ ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومَقْصُودُهُ من ذلك أن يريهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وبُطلانِهِ ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه ، فلما أفَلَ أراهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على النجوم ليريهم ، ويثبت خَطَأ ما يدَّعُون كمثل الحواري الذي وَرَد على قَوْمٍ يعبدون الصَّنَمَ فأظْهَرَ تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيِهِ في كثير من الأمُورِ إلى أن دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ فَشَاوَرُوُه في أمْرِهِ ، فقال : الرأي أن تَدْعُوا هذا الصَّنَمَ حتى يَكْشِفَ عَنَّا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا عليه يَتَضَرَّعُونَ ، فلما تبيَّنَ لهم أنه لا يَنْفَعُ ولا يدفع ، دعاهُمْ إلى أن يَدْعُوا الله ، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يَحْذَرُونَ وأسلموا .

واعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المُكْرَهِ على كلمة الكفر ، وهو عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكُفْرِ على اللسان ؛ قال تعالى { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [ النحل :106 ] وإذا جاز ذكر كلمة الكُفْرِ لإصلاح بقاء شخص واحد فَبِأنْ يجوز إظهار كلمة الكُفْرِ لتخليص عالم من العقلاء عن الكُفْرِ والعقاب المُؤبَّدِ أوْلى .

وأيضاً المُكْرَهُ على ترك الصلاة ، ثم صلَّى حتى قتل ، استحقَّ الأجْرَ العظيم ، ثم إذا كان وقْتُ القتالِ مع الكفار ، وعلم أنه لو اشتغل بالصَّلاةِ انهزم عَسْكَرُ الإسلام وجب عليه تَرْكُ الصَّلاةِ ، والاشتغال بالقتال ، حتى لو صلَّى وترك القتال أثِمَ ، ولو ترك الصلاة وقاتل ، استحق الثَّوابَ ، بل نقول : إنَّ مَنْ كان في الصلاة ورأى طِفْلاً ، أو أعمى أشرف على الحَرْقِ أو غَرَقٍ ، وجب عليه قَطْعُ الصلاة لإنقاذ الطفلِ ، والأعمى من البلاء ، فكذا ها هنا تكلم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بهذه الكلمات ليظهر من نفسه مُوافقةَ القوم ، حتى إذا أورد عليهم الدَّليل المُبْطل لقولهم ، كان قَبُولُهُمْ لذلك الدليل أتَمَّ ، وانتفاعهم به أكْمَلَ ، ويقوي هذا الوجه أنه -تعالى- حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ الصافات :88-90 ] .

وذلك لأنهم كانوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النجوم على حصول الحوادثِ المستقبلة ، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظَّاهرِ ، مع أنه كان بَرِيئاً عنه في الباطنِ ، ومقصوده أن يتوسَّل بهذا الطريق إلى كَسْرِ الأصنام ، فإذا جازت المُوافقةُ في الظاهر هاهنا مع كونه بريئاً عنه في الباطِنِ ، فلمَ لا يجوز أن يكون في مَسْألَتِنَا كذلك ؟

وأما الاحتمال الثاني : فهو أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذكر هذا الكلامَ قبل البلوغ ، وتقريره أن يقال : كان قَدْ خُصَّ إبراهيم - عليه السلام - بالعقل الكامل ، والقَريحةِ الصَّافية ، فخطر ببالِهِ قبل بلوغه إثبات الصانع -تعالى- فتفكَّرَ فرأى النجوم ، فقال : " هَذّا رَبِّي " فلمَّا شاهد حَرَكاتِهِ قال : { لا أحِبُّ الآفلين } ثم إنه -تعالى- أكمل بلوغه في قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .

والاحتمال الأول أوْلَى بالقبول ؛ لما ذكرنا من الدلائل .

فإن قيل إن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - استدلَّ بأفُولِ الكواكب ، على أنه لا يجوز أن يكون رَبَّا له ، والأفُولُ عبارة عن غَيْبُوبَةِ الشيء بعد ظهوره فيدلُّ على الحدوث من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقرير فيكون الطُّلُوعُ أيضاً دليلاً على الحدوث ، فَلِمَ ترك إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الاسْتدلال على حدوثها بالطلوع ، وعوَّل في إثبات هذا المطلوب على الأفُولِ ؟

الجواب : أن الطلوع والأفُولَ يشتركان في الدلالة على الحدوث ، إلا أن الدَّليلَ الذي يحتج به الأنبياء في مَعْرَضِ دعوة الخَلْقِ كلهم إلى الله لا بُدَّ وأن يكون ظاهراً ، بحيث يشترك في فَهْمِهِ الذَّكِيُّ والغَبِيُّ ، والعاقل والغافل ، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يَقِينيَّةً إلا أنها دَقِيقَةٌ لا يعرفها إلا الأفَاضِلُ من الخَلْقِ ، أما دلالة الأفُولِ على هذا المقصود ، فإنها ظَاهِرةٌ يعرفها كل أحَدٍ ، فإن الآفِلَ يزول سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأفُولِ ، فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتمَّ ، وأيضاً فيحتمل أنه إنما اسْتَدَلَّ بالأفُولِ من حيث إن الأفول غيبوبة ، فإن الإله المَعْبُودَ العالم العادل لا يغيب ، ولهذا استدلَّ بظهور الكواكب ، وبُزُوغِ القمر والشمس على الإلهية ، واستدلَّ بأفولهم على عدمِ الإلهية ، ولم يتعرض للاستدلالَ بالحركة ، وهل هي تَدُلُّ على الحدوث أم لا ؟

قال ابن الخطيب : وفيه دقيقة{[14358]} وهو أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما كان يُنَاظِرُهُمْ وهم كانوا مُنَجِّمين ، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان الرُّبْعِ الشرقي ، ويكون صاعداً إلى وسطِ السماء كان قويَّاً عظيم التأثير ، أما إذا كان غربيّاً وقريباً ومن الأفُولِ ، فإنه يكون ضَعيفَ الأثَر قليل القُوَّة ، فَنَبَّهَ بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي تتغير قُدْرَتُهُ إلى العَجْزِ ، وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرُّبْعِ الغربي يكون ضعيف القوة ، ناقص التأثير ، عاجزاً عن التَّدبير ، وذلك يَدُلُّ على القَدْح في إلهيته ، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مَزِيدَ خاصية في كونه موجباً لِلْقَدْح في إلهيته والله أعلم .

فإن قيل : إن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بنهارٍ وليل ، فكان أفُولُ الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السَّابق والنهار السابق ، وبهذا التقدير لا يبقى للأفولِ الحاصل في تلك الليلة فَائدةٌ ؟

فالجواب : أنا قد بَيَّنَّا أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أورد هذا الدَّليلَ على القوم الذين كان يدعوهم من عِبَادَةِ النجوم إلى التوحيد ، فلا يَبْعُدُ أن يقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي ، فَزَجرهُمْ عن عبادة الكواكب ، فبينما هو في تَقْريرِ ذلك الكلام ، إذ رفع بَصَرَه إلى كوكب مُضيء ، فلما أفَلَ قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انْتَقَلَ من الصُّعُودِ إلى الأفُولِ ومن القُوَّةِ إلى الضعف ، ثم في أثناء ذلك الكلام طَلَعَ القمر وأفَلَ فأعاد عليهم ذلك ، وكذا القول في الشمس{[14359]} .

فصل في الدلالة في الآية

دَلَّت الآية على أحكام :

أحدها : دلَّتْ على أنه ليس بِجِسْمٍ ، إذ لو كان جِسْماً غائباً أبداً لكان آفلا أبداً .

وأيضاً يمتنع أن يكون -تعالى- بحيث ينزل من العَرْشِ إلى السماء تَارةً ، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى ، وإلاَّ يحصل معنى الأفول .

وثانيها : دَلَّتِ الآية على أنه -تعالى- ليس مَحَلاًّ للصِّفاتِ المحدثة ، كما يقول الكرامية ، وإلاَّ لكان متغيراً ، وحينئذ يحصل معنى الأفولِ ، وذلك مُحَالٌ .

ثالثها : دلَّتِ الآية على أنَّ الدين يجب أن يكون مَبْنِياً على الدليل ، لا على التَّقْلِيدِ ، وإلاَّ لم يكن لهذا الاسْتِدْلالِ فَائِدَةٌ .

ورابعها : دلَّتِ الآية على أن معارف الأنبياء بربِّهِمُ اسْتِدْلاليَّةٌ لا ضرورية ، وإلاَّ لما احتاج إبراهيم - عليه السلام - إلى الاستدلال .

وخامسها : دلَّتِ الآية على أنه لا طَرِيقَ إلى تحصيل معرفة الله -تعالى- إلاَّ بالنَّظَرِ والاستدلال في أحْوالِ مخلوقاته ، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخَر لما عدلَ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لهذه الطريقة .


[14340]:ينظر: المحرر الوجيز 2/312.
[14341]:ينظر: الكشاف 2/40.
[14342]:البيت لعامر بن سدوس أو للبريق الهذلي أو لعياض بن خويلد الخناعي، ينظر: ديوان الهذليين 3/56، اللسان (سدف)، البحر 4/167، الدر المصون 3/104.
[14343]:ينظر: المفردات 98.
[14344]:ينظر: السبعة 260، والنشر 2/44، والحجة 256.
[14345]:ينظر: المفردات 420.
[14346]:ينظر: التكملة والذيل 1/261.
[14347]:ينظر: الصحاح 1/213.
[14348]:البيت لكثير عزة ينظر: ديوانه ص (347)، سر صناعة الإعراب 1/281، لسان العرب (هند)، الممتع في التصريف 1/202. الدر المصون 3/105.
[14349]:ينظر: المفردات 420.
[14350]:تقدم.
[14351]:تقدم.
[14352]:ينظر: ديوانه (425) اللسان (دلك)، مجاز القرآن 1/199، الدر المصون 3/106.
[14353]:ينظر: الرازي 13/39.
[14354]:ينظر: المصدر السابق.
[14355]:ينظر: الرازي 13/39.
[14356]:ينظر: الرازي 13/40 ـ 41.
[14357]:ينظر: الرازي 13/41.
[14358]:ينظر: الرازي 13/43 ـ 44.
[14359]:ينظر: الرازي 13/41.