لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

وقوله تعالى : { فلما جن عليه الليل } يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وأجنه الليل وجن عليه إذا ستره بسواده { رأى كوكباً قال هذا ربي } .

( ذكر القصة في ذلك )

قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار والسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان الملك وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان منجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه . ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء . وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكباً قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولد يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه ، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة ، رجلاً يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما . قالوا : فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم . وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها . وقال السدي : فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلها عن النساء تخوفاً من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له : إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك . فقال آرز : أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم . قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض ، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها . قالوا : فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا ، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع . وكانت أمه تختلف إليه فترضعه . وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها . وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حياً وهو يمص إبهامه . قال أبو روق : قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء ، ومن أصبع لبناً ، ومن أصبع سمناً ، ومن أصبع عسلاً ، ومن أصبع تمراً . وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت : ولدت غلاماً فما صدقها وسكت عنها . وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال : أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض . وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكباً قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين .

فلما رأى القمر بازغاً ، قال : هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك . فلما رجعت به أمه ، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحاً شديداً . وقيل : إنه مكث في السرب سبع سنين . وقيل : ثلاث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة . قالوا : فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا . قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك : فمن رب أبي ؟ قالت : اسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك . ثم أخبرته بما قال فأتاه أبو آزر فقال إبراهيم : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك . قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا . قال : فمن ربك ؟ قال : نمرود . قال فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال : اسكت .

فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكباً قال : هذا ربي ويقال إنه قال لأبويه : أخرجاني ، فأخرجاه من باب السرب حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه ؟ قال : إبل وخيل وغنم . فقال إبراهيم : ما لهذه بد من أن يكون لها إله وهو ربها وخالقها . ثم نظر ، فإذا المشتري قد طلع ويقال إنها الزهرة ، وكانت تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل : { فلما جن عليه الليل } يعني ستره بظلامه رأى كوكباً قال { هذا ربي } ثم اختلف العلماء في وقت هذه الرؤية وفي وقت هذا القول هل كان قبل البلوغ أو بعده على قولين : أحدهما أنه كان قبل البلوغ في حال طفوليته وذلك قبل قيام الحجة عليه فلم يكن لهذا القول الذي صدر من إبراهيم في هذا الوقت اعتبار ولا يترتب عليه حكم لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ . وقيل : إن إبراهيم لما خرج من السرب في حال صغره ونظر إلى السماء وما فيها من العجائب ونظر إلى الأرض وما فيها من العجائب وكان قد خصه الله بالعقل الكامل والفطرة السليمة تفكر في نفسه وقال لا بد لهذا الخلق من خالق مدبر وهو إله الخلق ، ثم نظر في حال تفكره فرأى الكوكب وقد أزهر ، فقال : هذا ربي على ما سبق إلى وهمه وذلك في حال طفوليته وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى واستدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } قالوا وهذا يدل على نوع تحير وذلك لا يكون إلا في حال الصغر وقبل البلوغ وقيام الحجة وهذا القول ليس بسديد ولا مَرْضي لأن الأنبياء معصومون في كل حال من الأحوال وأنه لا يجوز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو بالله عارف وله موحد وله من كل منقصة منزه ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على إبراهيم وقد عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السماوات والأرض أفبرؤية الكوكب يقول معتقداً هذا ربي ؟ حاشا إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ذلك لأن منصبه أعلى وأشرف من ذلك صلى الله عليه وسلم .

والقول الثاني : الذي عليه جمهور المحققين إن هذه الرؤية وهذا القول كان بعد بلوغ إبراهيم وحين شرفه الله بالنبوة وأكرمه بالرسالة ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الآية ومعناها فذكروا فيها وجوهاً :

الوجه الأول : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها لأنهم كانوا يرون أن كل الأمور إليها ، فأراهم إبراهيم أنه معظِّمُ ما عظموه فلما أفل الكوكب والقمر والشمس أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأقوال ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية . ومثل هذا كمثل الحواري الذي ورد على قوم كانوا يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه لذلك حتى صاروا يصدرون عن رأيه في كثير من أمورهم إلى أن دهمهم عدو لا قبل لهم به فشاوروه في أمر هذا العدو فقال : الرأي عندي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما نزل بنا ، فاجتمعوا حول الصنم يتضرعون إليه فلم يغنِ شيئاً فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يدفع ، دعاهم الحواري وأمرهم أن يدعو الله عز وجل ويسألوه أن يكشف ما نزل بهم ، فدعوا الله مخلصين ، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا جميعاً .

الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام قال هذا القول على سبيل الاستفهام وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه وتقديره : أهذا ربي الذي تزعمون ، وإسقاط حرف الاستفهام كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } يعني أفهم الخالدون . والمعنى أيكون هذا رباً ودلائل النقص فيه ظاهرة .

الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه يقول هذا ربي بزعمكم فلما غاب قال لو كان إلهاً كما تزعمون لما غاب فهو كقوله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } يعني عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى عليه السلام بقوله تعالى : { انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً } يريد إلهك بزعمك .

الوجه الرابع : إن في هذه الآية إضماراً تقديره يقولون { هذا ربي } وإضمار القول كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } أي يقولان { ربنا تقبل منا } الوجه الخامس : إن الله تعالى قال في حقه { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } ثم قال بعده { فلما جن عليه الليل } والفاء تقتضي التعقيب فدل هذا أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه الله ملكوت السماوات والأرض وبعض الإيقان ومن كان معه بهذه المنزلة العالية الشريفة لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب ويتخذها رباً .

فأما الجواب عن قوله : { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } فإن الأنبياء عليهم السلام لم يزالوا يسألون الله التثبيت ومنه قوله { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } قوله تعالى : { فلما أفل } يعني غاب والأفول غيبة النيرات { قال } يعني إبراهيم { لا أحب الآفلين } يعني لا أحب رباً يغيب ويطلع لأن أمارات الحدوث فيه ظاهرة .