الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

تفسير الشافعي 204 هـ :

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اِليْلُ رَءا كَوْكَبا قَالَ هَاذَا رَبِّى} حين نظر إلى الكوكب والشمس والقمر فوجدها مختلفة متغيرة في صفاتها، فأخرجها عن الربوبية بعلة اشتراكها في الأفول والزوال والتنقل من حال إلى حال. ثم سمى الله عز وجل استدلاله حُجَّةً وأضافه إلى نفسه، فقال عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} ثم بين أن من هداه الله إلى حجته ارتفعت درجته فقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاء}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

فلما واراه الليل وجَنّةُ، يقال منه: جنّ عليه الليل، وجنّه الليل، وأجنّه، وَأجَنّ عليه، ويقال: أتى فلان في جِنّ الليل، والجنّ من ذلك، لأنهم استَجنّوا عن أعين بني آدم فلا يُرَوْن وكلّ ما توارى عن أبصار الناس فإن العرب تقول فيه: قد جَنّ. ومنه: أجننت الميت: إذا واريته في اللحد، وجننته. وهو نظير جنون الليل في معنى: غطيته. ومنه قيل للترس: مِجَنّ، لأنه يَجُنّ من استجنّ به فيغطيه ويواريه.

"رَأى كَوْكَبا": أبصر كوكبا حين طلع قالَ هَذَا رَبي. عن ابن عباس، قوله: "وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ "يعني به: الشمس والقمر والنجوم. "فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رَأى كَوْكَبا قالَ هَذَا رَبي "فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لا أحبّ الآفلين "فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي" فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: "لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالّين". "فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، هذا أكبر" فعبدها حتى غابت، فلما غابت "قال: يا قوم إني بريء مما تشركون"...

وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوي عن ابن عباس، وعمن رُوِي عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: هذا ربي وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيّ ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلاّ وهو لله موحد وبه عارف ومن كلّ ما يعبد من دونه بريء. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلاّ وفي غيره من أهل الكفر به مثله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: «هذا ربي»، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأَ وأحْسَنَ وأبهجَ من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلة زائلة غير دائمة، والأصنام التي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم، أحقّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم معارضة، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضا له في قول باطل قال به بباطل من القول على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدّعي فساد الاَخر. وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفوليته وقبل قيام الحجة عليه، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. وقال آخرون منهم: وإنما معنى الكلام: أهذا ربي على وجه الإنكار والتوبيخ أي ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك، فتحذف الألف التي تدلّ على معنى الاستفهام... وأما تذكير «هذا» في قوله: "فَلَمّا رأى الشمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبي" فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربي.

وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: "لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبي لأَكُونَنّ مِنَ القَوْمِ الضّالّينَ" الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم. وأن الصواب من القول في ذلك: الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه.

"فَلَمّا أفَلَ": فلما غاب وذهب. ويقال: أين أفلت عنا؟ بمعنى: أين غبت عنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

تكلموا في تأويل الآية على وجوه ثلاثة: فمنهم من جعل الأمر على ما عليه الظاهر: أنه غير عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بأن له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل، فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...) الآية، لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة:

أحدها: ما روي في التفسير أنه ربّي في السرب، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء، فنظر عن باب السرب في أوّل الليل، فرأى الزهرة بضوئها وتلاللَّهِا، وكان في علمه أن له ربا وأنه يرى، فلم ير أضوأ منها ولا أنور، فقال: هذا ربي، فلما أفل وله علم أن الرب دائم لا يزول، فقال: لا أحبُّ، بمعنى: ليس هذا برب؛ كقوله: (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)، أي: ليس لنا، وقول عيسى حيث قال: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)، بمعنى: ما قلت ذلك، لكن أهل هذا التفسير حملوا الأفول على غيبوبته بنفسه، وهو عندنا على غيبوبته في سلطان القمر وقهر سلطان القمر، لما طلع سلطان النجم، وعنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول؛ وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل، وفي ذلك أنه لو كان عنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول وأنه لا يرى، لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه بل أقر به، وأنكر الأفول والزوال، وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال.

ومنهم من يقول: كان هذا منه في وقت، لم يكن جرى عليه القلم سمع الخلق يقولون في خلق السماء والأرض ونحو ذلك، وينسبون ذلك إلى اللَّه؛ وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقوله: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ...)، إلى قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) ثم رآهم عبدوا الأصنام وسموها آلهة، فتأمل فوجدها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، علم أن مثلها لا يحتمل أن يكون يخلق ما ذكر، وأن الذي ذلك فعله لعلي عظيم، يجب طلب معرفته من العلو بما كان يسمع نسبة الملائكة إلى السماء ونزول الغيث منها، ومجيء النور والظلمة وكل أنواع البركات وغيرها منها، فصرف تدبير الطلب الذي نسب إليه الخلق إليها.

ثم أوّل ما أخذ في التأمل والنظر لم يقع بصره على أحسن وأبهى من الذي ذكر، فظنه ذلك، ثم لما قهر وقد كان علم بأن خالق من ذكر لا يجوز أن يقهر، فمن ذلك علم أنه ليس هو وقال لِمَنْ قَهَرَ، وذلك إلى أن قهر الليل ضوء الشمس، وصار بحيث لا يجري له السلطان، ورأى في الكل آثار التسخير والتذليل، ولم ير فيها أعلام من له الأمر والخلق، فعلم أن الرب لا يدرك من ذلك الوجه، ولا يعرف من جهة الحواس، فرجع إلى ما سمع من أنه خلق السماوات والأرض، فوجه نفسه إليه بالعبودية، واعترف له بالربوبية بما في الخلق من آثار ذلك، وفي القول من تسمية من له الخلق ربا وإلها، فآمن به، وذلك كان أول أحوال احتماله علم الاستدلال وبلوغه المبلغ الذي من بلغه يجري عليه الخطاب، ولا قوة إلا باللَّه.

ومنهم من قال: إنه كان بالغًا قد جرى عليه القلم، وقد كان رأى ما ذكر غير مرة، لكن اللَّه لما أراد أن يهديه ألهمه ذلك وألقاه في نفسه، فانتبه انتباه الإنسان لشيء كان عنه غافلا من قبل، فرأى كوكبًا أحمر يطلع عند غروب الشمس، فراعاه إلى أن أفل، فأراد إذن من اللَّه قربة، وعلم أن ربه لا يزول ولا يتغير، ففزع إليه وقال: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)؛ وكذا ذكر في القمر والشمس إلى أن عرف اللَّه، فتبرأ مما كانوا يشركون، وتوجه بالتوحيد والعبادة إليه؛ وإلى هذا التأويل ذهب الحسن.

الأول: روي عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والثاني: قال به جماعة أهل الكلام، ونحن نتبرأ إلى اللَّه أن نجعله رجلا بالغًا جرى عليه القلم، وهو كان -عن اللَّه- بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس، مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن، والأفول بعد الوجود، ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء، ومن له يحمل في راحة وسرور، ثم لا يرى في شيء من العالم أو له معنى يدل على رجوع التدبير إليه، فيتحقق له القول بذلك، والله يصفه بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، قيل: سليم من الشرك لم يشبه بشيء، وقال: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، وما يذكرونه إنما آتاه على نفسه إذ هو في الغفلة عنها، والجهل بمن له الآيات شريك قومه، وقد قال -أيضًا- (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ومعلوم أن ذلك على معاينته أو أنه قد أرى كلا منهما، ولكن على ما بينت من الوجهين وفيهما حقيقة ذلك.

وليس في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) دلالة الشك في الابتداء، أو الجهل في الحال التي يحتمل العلم به فسمى به عَزَّ وَجَلَّ، ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان ممن لا يقع عليه الحواس، ولا يوجب علمه الضرورات، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقى الأخبار، ولا قوة إلا باللَّه.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{فلما جن} أي ستر وأظلم {عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي} أي في زعمكم أيها القائلون بحكم النجم وذلك أنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها {فلما أفل} أي غاب {قال لا أحب الآفلين} عرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم ودل على أن من غاب بعد الظهور كان حادثا مسخرا وليس برب.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} عطف على قال إبراهيم لأبيه: وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره. "ملكوت السموات والأرض": يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال. "وليكون من الموقنين": فعلنا ذلك. ونروي: حكاية حال ماضية، وكان أبوه [آزر] وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. {هذا رَبّي} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة {لا أُحِبُّ الآفلين} لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى آخر، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...

المسألة الثالثة: اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد، فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام، فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا، فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك، فقال للأب: ومن ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء. فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه، ومنهم من قال: إن هذا كان قبل البلوغ. واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه:

الحجة الأولى: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء.

الحجة الثانية: أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل. والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر: {أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ظلال مبين}.

الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش. ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام. فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مرارا وأطوارا، ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه. فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة.

الحجة الرابعة: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السماوات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى، ومن كان منصبه في الدين كذلك، وعلمه بالله كذلك، كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب؟

الحجة الخامسة: أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجها وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيبا من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلا عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء؟

الحجة السادسة: أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام: {إذ جاء ربه بقلب سليم} وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليما عن الكفر، وأيضا مدحه فقال: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة. وقوله: {وكنا به عالمين} أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}.

الحجة السابعة: قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين.

ثم قال بعده: {فلما جن عليه الليل} والفاء تقتضي الترتيب، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه.

الحجة الثامنة: أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه، والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} ولم يقل على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد. لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه.

الحجة التاسعة: أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار، وهذا باطل. لأنه لو كان الأمر كذلك، فكيف يقول {يا قوم إني برئ مما تشركون} مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم.

الحجة العاشرة: قال تعالى: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله} وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم، وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله: {لا أحب الآفلين} ردا عليهم وتنبيها لهم على فساد قولهم.

الحجة الحادية عشر: أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام، كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار.

الحجة الثانية عشرة: أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم، ثم غربت، فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية، وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضا في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه. أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم، فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير، فالسؤال غير وارد، فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم: هذا ربي. وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان: الأول: أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة. الأول: أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي، على سبيل الإخبار، بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وإلههم، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله، ومثاله: أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم، فيقول: الجسم قديم؟ فإذا كان كذلك، فلم نراه ونشاهده مركبا متغيرا؟ فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه، فكذا ههنا قال: {هذا ربي} والمقصود منه حكاية قول الخصم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على فساده وهو قوله: {لا أحب الآفلين} وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب، والدليل عليه: أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}.

والوجه الثاني في التأويل: أن نقول قوله: {هذا ربي} معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء: أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا} وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي}.

والوجه الثالث في الجواب: أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه.

والوجه الرابع: أن يكون القول مضمرا فيه، والتقدير: قال يقولون هذا ربي. وإضمار القول كثير، كقوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا} أي يقولون ربنا وقوله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} أي يقولون ما نعبدهم، فكذا ههنا التقدير: إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه: يقولون هذا ربي. أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني.

والوجه الخامس: أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء.

الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة. وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأمورا بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر، ومعلوم أن عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضا المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم، ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال. حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب، بل نقول: أن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء. فكذا ههنا أن إبراهيم عليه السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ومما يقوي هذا الوجه: أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله: {فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم * فتولوا عنه مدبرين} وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن، ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام، فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا. مع أنه كان بريئا عنه في الباطن، فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك؟ وأيضا المتكلمون قالوا: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده، ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا. وقوله: {هذا ربي} لا يوجب الضلال، لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزا والله أعلم.

الوجه السابع: أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام {هذا ربى} أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زمانا حتى أفل ثم قال: {لا أحب الآفلين} فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ.

أما الاحتمال الثاني: وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية، فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم، فقال: {هذا ربي} فلما شاهد حركته قال: {لا أحب الآفلين} ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال: {إني برئ مما تشركون} فهذا الاحتمال لا بأس به، وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة، على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم.

المسألة الخامسة: القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة. وقال القاضي: كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم، وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي. وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم.

المسألة السادسة: أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون ربا له وخالقا له. ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين: أحدهما: أن الأفول ما هو؟ والثاني: أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب؟ فنقول: الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره.

وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل، فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير، فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث، فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟

والجواب: لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل. ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق. أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم. وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الإمكان أفول، وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج: لا يكون مقطوع الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: {وأن إلى ربك المنتهى} وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر. فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله: {لا أحب الآفلين} كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.

وفيه دقيقة أخرى: وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين. ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة. فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي، يكون ضعيف القوة، ناقص التأثير، عاجزا عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته، والله أعلم.

أما المقام الثاني: وهو بيان أن كون الكوكب آفلا يمنع من ربوبيته. فلقائل أيضا أن يقول: أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالا على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه ربا لإبراهيم ومعبودا له، ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسائط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها، ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل، فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أربابا للإنسان وآلهة لهذا العالم. والجواب: لنا ههنا مقامان:

المقام الأول: أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات، ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها، وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثا، فإنه يكون في وجوده محتاجا إلى الغير. وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها، ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أربابا وآلهة. بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها، فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أربابا وآلهة بهذا التفسير.

المقام الثاني: أن يكون المراد من الرب والإله. من يكون خالقا لنا وموجدا لذواتنا وصفاتنا. فنقول: أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه: الأول: أن أفولها يدل على حدوثها. وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية. وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر، ولزم التسلسل وهو محال، فثبت أن قادريته أزلية.

وإذا ثبت هذا فنقول: الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدورا له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات. فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدورا لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات، فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدورة لله تعالى.

وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينية في علم الأصول.

فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة، وأيضا فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة. ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات، فأما التفريع والتفصيل، فذاك إنما يليق بعلم الجدل. فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع، فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أربابا وآلهة لحوادث هذا العالم.

الوجه الثاني: أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار، فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب، ومن كان قادرا على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادرا على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادرا على خلق الشيء الأضعف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} وبقوله: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادرا على خلق البشر، وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر.

الوجه الثالث: أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة، لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب. أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكا في معرفة خالقه. أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره، فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأربابا للحيوان والإنسان. والله أعلم. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

فإن قيل: لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل، وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلا في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة.

والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد. فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء. فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف. ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل. فأعاد عليهم ذلك الكلام، وكذا القول في الشمس، فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

المسألة السابعة: دل قوله: {لا أحب الآفلين} على أحكام:

الحكم الثالث: تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.

الحكم الخامس

تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة. والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق: دانيهم وقاصيهم، وهي أشرف من الأرضية، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى؛ نصب لهم الحجاج في أمرها، فقال مسبباً عن الإراءة المذكورة: {فلما جن} أي ستر وأظلم، وقصره -وإن كان متعدياً- دلالة على شدة ظلام تلك الليلة، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه الّيل} أي وقع الستر عليه، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء {رأى كوكباً} أي قد بزغ، فكأنه قيل: فماذا فعل؟ فقيل: {قال هذا ربي} فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبراً واستفهاماً، ليوهمهم أنه مخبر، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب، فيكون أشد استجلاباً لهم إلى إنعام النظر وتنبيهاً على موضع الغلط وقبول الحجة، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله: {فلما أفل} أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان {قال لا أحب الآفلين} لأن الأفول حركة، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولاً عن اعتقاد ربوبية الكواكب، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقناً، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهاً لهم، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم، ولم يستدل بالطلوع لأنه -وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان- شرف في الجملة وسلطان، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، والممكن لا بد له من موجد واجب الوجود، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال

{وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة، فلا بد من الاستناد إلى قديم، والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية، وخص الأفول أيضاً لأن قومه الفرس كانوا منجمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعداً من المشرق إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير، فإذا كان نازلاً إلى المغرب كان ضعيف الأثر، والإله هو من لا يتغير، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال فقوله عز وجل: {فلما جن عليه الليل رءا كوكبا}. الخ قال الراغب أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه وأجن عليه فجنه ستره وأجنه جعل له ما يجنه كقولك قبرته وأقبرته وسقيته وأسقيته، وجن عليه كذا ستر عليه اه ومنه الجن والجنة بالكسر والجنة بالضم وهي الستر يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرهما، والجنة بالفتح وهي البستان الذي يستر أرضه من الشمس. والكوكب والكوكبة واحد الكواكب وهي النجوم. والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها والعرب تطلقه على الزمرة كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم والعامة تقول نجمة.

والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا، كان من أول أمر في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض، نظر في ملكوت السماء فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه- يدل على ذلك تنكير الكوكب- وقد روي عن ابن عباس أنه المشتري الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والروم، وكان قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة، وعن قتادة أنه الزهرة. فماذا قال لما رآه؟ {قال هذا ربي} أي مولاي ومدير أمر، قيل إنه قال ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه، وقيل في مقام المناظرة والحجاج لقومه، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته عليه الصلاة والسلام لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته عل بطلان عبادتها، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها.

ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحاق فيها أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم نمرود بن كنعان أن يقتله إذا كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ويكسر أصنامهم فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر وفي الشهر كما يشب غيره في سنة وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض- وذكر رؤيته للكوكب فالقمر فالشمس... ولا شك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة وأن ابن إسحاق أخذها عن بعض اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم فتبطل ثقة يهود وغيرها بهم. وروى نحوه أبو حاتم عن السدي. والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث واسمه محمد بن مروان.

وأما ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من تفسير « هذا ربي» بالعبادة فلا يصح وهو من مراسيل علي بن طلحة مولى بني العباس وقد روى عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره وقال فيه أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: صدوق يخطئ. ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم وقد لينه ابن معين وقال أبو حاتم لا يحتج به. ولم يرضه البخاري ولا ابن القطان، فكيف يؤخذ بروايته عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمان كان في صغره مشركا؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح.

ومن العجيب أن ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه وهو الذي جزم به الجمهور من كان مناظرا لقومه فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كر عليه بالنقض، بانيا دليله على قاعدة الحسن ونظر العقل، وقيل إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته، أي أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده؟ وقيل أراد: هذا ربي بزعمكم، أو إنكم تقولون هذا ربي وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس، ولا يقبله الذوق.

أما ابن جرير فاحتج أولا بالرواية وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل عليه الصلاة والسلام ولو في الصغر على أنها مطلقة- وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر. وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام الرازي في تعدادها وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر. وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام- ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها- ومن تعليل الإراءة بما تقدم- ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم.

{فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)} أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب، قال لا أحب من يغيب ويحتجب، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب، وأشار بقوله الآفلين إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه، ويوحشه فقد جماله وكماله، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار، فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار، والاحتجاب عن الأبصار، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال، وفنون الجنون والخبال، وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فلا يجوز أن يكون إلا للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يأفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير، وسلطانه في التصرف والتدبير، وما كان ليخفى على الخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان، وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان، وهو « أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها، ويخفى حالهم عليها؟

وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث أو الإمكان، وهو تفسير للشيء بما قد يباينه فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم وفي استقرار الحمل وكذا اللقاح في الرحم فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني وهو الغيوب والخفاء، وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب. وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا، وهو غلط كسابقه فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك- وهو الصحيح- أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليست من سبب أفولها المشاهد في شيء.

وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها، وبقدمها مع حركتها، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء، وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد.

وقد كان الزمخشري من أولئك النظار وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس: « فإن قلت» لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ « قلت» الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب اه وقال ابن المنير إنه من عيون نكته ووجوه حسناته، اه والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا، لا برهانا نظريا جليا، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية بل بني عليه القول بها، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{قَالَ هَذَا رَبِّي} أي: على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان. {فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غاب ذلك الكوكب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: الذي يغيب ويختفي عمن عبده، فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع شئونه، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب، فمن أين يستحق العبادة؟! وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل؟!

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا. قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين)..

إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك -بل الإنكار الجازم- لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام. وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه.. صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: (فلما جن عليه الليل).. كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا، قال: هذا ربي)..

وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم -كما أسلفنا- فلما أن يئس من أن يكون إلهة الحق -الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية- صنما من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة!

وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم. وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا.. ولكن الكوكب -الليلة- ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه:

(قال: هذا ربي)..

فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب -من الأصنام- إلى أن يكون ربا!.. ولكن لا! إنه يكذب ظنه: (فلما أفل قال: لا أحب الآفلين)..

إنه يغيب.. يغيب عن هذه الخلائق. فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها.. إذا كان الرب يغيب؟!

لا، إنه ليس ربا، فالرب لا يغيب!

إنه منطق الفطرة البديهي القريب.. لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم. لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق..

(لا أحب الآفلين)..

فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب؛ والآصرة هي آصرة القلب.. وفطرة إبراهيم "لا تحب "الآفلين، ولا تتخذ منهم إلها. إن الإله الذي تحبه الفطرة.. لا يغيب..!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {جَنّ عليه الليل} أي أظلم الليل إظلاماً على إبراهيم، أي كان إبراهيم محوطاً بظلمة الليل، وهو يقتضي أنَّه كان تحت السَّماء ولم يكن في بيت. ويؤخذ من قوله بعده {قال يا قوم إنِّي بريء مِمَّا تشركون} أنَّه كان سائراً مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها أصناماً. وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم... وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنَّه لم يقل: هذا ربّ. فدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنَّه لا يَرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحداً من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله... وقوله: {هذا ربِّي} أي خالقي ومدبِّري فهو مستحقّ عبادتي. قاله على سبيل الفرض جرياً على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنَّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكُرّ عليهم بالإبطال إظهاراً للإنصاف وطلب الحقّ. ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كُفر على لسانه عليه السلام لأنَّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده، ولا يزيد قولُه هذا قومَه كفراً، كالذي يُكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبُه مطمئنّ بالإيمان فإنَّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النَّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى... وجاء ب {الآفلين} بصيغة جمع الذكور العقلاء المختصّ بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أنّ الكواكب عاقلة متصرّفة في الأكوان، ولا يكون الموجود معبوداً إلاّ وهو عالم. ووجه الاستدلال بالأفوال على عدم استحقاق الإلهية أنّ الأفول مغيب وابتعاد عن الناس، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلمَّا أفلّ النجم كان في حالة أفوله محجوباً عن الاطِّلاع على النَّاس، وقد بنَى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيباً عن هذا العالم، يعني أنّ ما يغيب لا يستحقّ أنْ يُتَّخذ إلهاً لأنَّه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه. وليس الاستدلال منظوراً فيه إلى التغيّر لأنّ قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغيّر وانتفاء صفة الإلهية، ولأنّ الأفول ليس بتغيّر في ذات الكوكب بل هو عَرَض للأبصار المشاهِدة له، أمَّا الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعاً لهم. ولأجل هذا احتجّ بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإنّ البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكنْ الأفول السابقُ غيرُ مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول: إنّ هذا البازغ كان من قَبلُ آفِلاً.