النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

قوله عز وجل : { فَلمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيلُ رَءَا كَوْكَباً } قال مجاهد : ذكر لنا أنه رأى الزهرة طلعت عشاءً .

{ قَالَ هَذَا رَبِّي } ومعنى جَنَّ عليه الليل ، أي ستره ، ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها ، والجِنُّ لاستتارهم عن العيون ، والجُنُون لأنه يستر العقل ، والجَنِين لأنه مستور في البطن ، والمِجَنّ لأنه يستر المتترس ، وقال الهذلي :

وماء وردت قبيل الكرى *** وقد جنه السدف الأدهم{[906]}

وفي قوله تعالى : { هَذَا رَبِّي } خمسة أقاويل :

أحدها : أنه قال : هذا ربي في ظني ، لأنه في حال تقليب واستدلال .

والثاني : أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه ، قاله ابن عباس .

والثالث : أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر ، لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود ، فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه ، لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان ، ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ لأن الأنبياء لا يجوز أن يكون>{[907]} منهم شرك بالله تعالى بعد البلوغ .

والرابع : أنه لم يقل ذلك قول معتقد ، وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة الأصنام ، فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها ، فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة .

والخامس : أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره : أهذا ربي ، كما قال الشاعر{[908]} :

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع *** فقلت وأنكرت الوجه هم هم

بمعنى أهم هم ؟

{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي غاب ، قال ذو الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها *** نجوم ولا بالآفلات الدوالك

{ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأفِلِينَ } يعني حُبَّ رَبٍّ معبود ، وإلا فلا حرج في محبتهم غير حب الرب .


[906]:- هكذا جاء في الأصول. ورواه صاحب اللسان: وما وردت على خيفة وقد جنة السدف المظلم والسدف: الليل. والادهم: الأسود.
[907]:- مسقط من ك.
[908]:- هو أبو خراش الهذلي.