الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } : يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً على قوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } عطفاً للتدليل على مدلوله ، فيكون { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ } معترضاً كما تقدم ، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة من قوله { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ } قال ابن عطية : " الفاءُ في قوله : " فلمَّا " رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت التفصيل المذكور في هذه الآية " والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري .

وجَنَّ : سَتَر ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر { الْجَنَّةَ } [ البقرة : 35 ] . وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال : جَنَّ عليه الليل وأجنّ عليه ، بمعنى أظلم ، فيُستعمل قاصراً ، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً ، إلا أن الأجود في الاستعمال : جنَّ عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً ، وأفعل متعدياً ، ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله :

*** وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى

وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ

ومصدره جَنٌّ وجَنان وجُنون ، وفرَّق الراغب بين جَنَّه وأَجَنَّه ، فقال : " جنَّه إذا ستره ، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه كقولك : قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه " وقد تقدَّم لك شيء من هذا عند ذِكْرِ حزن وأحزن ، ويُحتمل أن يكون " جنَّ " في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول منه تقديره : جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات .

قوله : " رأى كوكباً " هذا جواب " لمَّا " ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلاف كبير بالنسبة إلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله فأقول : أمَّا " رأى " الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو بكماله ، وأمال السُّوسي بخلاف عنه عن أبي عمرو الراء أيضاً ، فالسوسي في أحد وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين ، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم ، فأمَّا إذا/ اتصل به ضمير نحو { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ } [ الصافات : 55 ] { فَلَمَّا رَآهَا } [ النمل : 10 ] { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ } [ الأنبياء : 36 ] فابن ذكوان عنه وجهان ، والباقون على أصولهم المتقدمة .

وأما " رأى " إذا حذفت ألفه فهو على قسمين : قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً ولا وقفاً نحو : { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [ الفرقان : 12 ] { رَأَوُاْ الْعَذَابَ }

[ يونس : 54 ] فلا إمالة في شيء منه ، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو :

{ رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإِنسان : 20 ] ، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء السَّاكنين وَصْلاً ، وتعود وقفاً نحو : { رَأَى الْقَمَرَ } [ الأنعام : 77 ] { رَأَى الشَّمْسَ }

[ الأنعام : 78 ] { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } [ الكهف : 53 ] { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ النحل : 85 ] فهذا فيه خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإِمالة اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى ، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده .

وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما . هذا كله إذا وصلْتَ ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها ، وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم ، كما إذا وقفت على رأى مِنْ نحو : { رَأَى الْقَمَرَ } [ الأنعام : 77 ] . فأمَّا إمالة الراء من " رأى " فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء ، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى بالألف نحو الياء ، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال : أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة .

وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ ، ووجهُ مَنْ أمال الهمزةَ في " رأى القمرَ " مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ ، ثم منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف ، ومنهم مَنْ لم يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك .

والكَوْكَبُ : النجم ، ويقال فيه كَوْكبة ، وقال الراغب : " لا يقال فيه أي في النجم كوكب إلا عند ظهوره " . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه من مادة " وكب " فتكون الكافُ زائدة ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني ، قال رحمه الله : " حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة " وَكب " عند حُذَّاق النحويين فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم ، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك و ك ب ، ولعله تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي ، ذاهباً إلى أن الواو أصلية ، فهذا تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف ، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز ، وحروفُ الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة . فأمَّا قولُهم " هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ " بمعنى واحد وهو المنسوبُ إلى الهند ، وقول الشاعر :

ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها *** طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ

فظاهره زيادة الكاف ، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له ، فكما لا يقال الراء زائدة باتفاق ، كذلك هذه الكاف ، ولذلك قال الشيخ ، " وليت شعري : مِنْ حُذَّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة " والثاني : أن الكلمة كلها أصول رباعية ، مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل ك " فَوْفَل " وهو بناءٌ قليل . والثالث : ساق الراغب أنه من مادة : كبَّ وكَبْكب فإنه قال : " والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء في هُوَّة يقال : كَبَّ وكَبْكَبَ نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وصَرَّ الريحُ وصرصر ، والكواكب النجوم البادية " فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريبُ جداً .

قوله : " قال هذا ربِّي " في " قال " ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه استئنافٌ أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف . والثاني : أنه نعت ل " كوكباً " فيكون في محل نصب ، وكيف يكون نعتاً ل " كوكباً " ولا يساعد من حيث الصناعةُ ولا من حيث المعنى ؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة الواقعة صفةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك خاص بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر ، فلا يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك ، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ ، أي : قال فيه : هذا ربي . وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير : رأى كوكباً متصفاً بهذا القول ، وذلك غير مراد قطعاً . والثالث : أنه جواب " فلما جَنَّ ، وعلى هذا فيكون قوله " رأى كوكباً " في محلِّ نصب على الحال أي : فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً .

و " هذا ربي " محكيٌّ بالقول ، فقيل : هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير ، وقيل : بل هو على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ، وأنشدوا :

لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا *** بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان

وقوله :

أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ *** أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا

وقوله :

*** طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ

ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ

وقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ } [ الشعراء : 13 ] قالوا : تقديره : أبسبع ، وأأفرح ، وأذو ، وأتلك . قال ابن الأنباري : " وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام ، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود " أم " في البيت الأول بخلاف ما بعده . والأًُفول : الغَيْبَةُ والذهاب ، يقال : أَفَلَ يأفُل أُفولاً ، قال ذو الرمَّة :

*** مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها

نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها

والإِفَالُ : صغارُ الغنم ، والأَفيل : الفصيل الضئيل .