الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ} (76)

قوله سبحانه : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي }[ الأنعام :76 ] .

{ جَنَّ اللَّيْلُ } : ستَرَ وغطى بظلامه ، ذهب ابن عباس ، وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه ، وقبل البلوغ والتكليفِ ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً ، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ ، وقالتْ : إنه استفهم قومَهُ ، على جهة التوقيفِ والتوبيخِ ، أي : هذا ربِّي ، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه ، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى ، ويوكِّل بهن حُرَّاساً ، فمن وضَعَتْ أنثى ، تُركَتْ ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً ، حمل إلى المَلِك فذَبَحه ، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ ، وكانَتْ شابَّة قويةً ، فسَتَرَتْ حملها ، فلما قربت ولادتُها ، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى سَفَر ، وتحيَّلت لمضيِّه إليه ، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ ، فولدَتْ فيه إبراهيم ، وتركته في الغار ، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه ، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ، ونحو هذا ، وحُكِيَ : بل كان يغذِّيه مَلَكٌ ، وحُكِيَ : بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن ، واللَّه أعلم ، أيُّ ذلك كان ، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره ، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته ، ويشدِّد في طلبه ، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ ، وقيل : خمسَ عَشْرة سنةً ، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ ، فرأى الكواكِبَ ، وجرَتْ قصة الآية ، واللَّه أعلم .

فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصَّة في الغارِ في حال الصَّبْا ، وعدمِ التكليفِ ، على ما ذهب إليه بعض المفسِّرين ، ويحتمله اللفظ ، فذلك ينقسمُ على وجْهين : إما أنْ يجعل قوله : { هذا رَبِّي } تصميماً واعتقادا ، وهذا باطلٌ ، لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم ، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال ، كأنه قال : أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي ، إنْ عَضَّدتَ ذلك الدلائلُ .

وإن قلنا : إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ ، وهو مكلَّف ، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر ، لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ ، وهو عليه السلام منزَّه معصوم من ذلك كلِّه ، فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه ، والتوبيخ لهم ، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام ، كأنه قال : أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي ، وهو يريد : على زعمكم ، كما قال تعالى : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ } [ القصص :62 ] ، أي : على زعمكم ، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث ، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا ، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ، ثم في الشَّمْس كذلك ، فكأنه يقول : فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ ، أنها لا تصلح للربوبيَّة ، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها ، ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ : { إِنّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }[ الأنعام :78 ] قلت : وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا » ، قال : وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه ، ومستدلاًّ عليهم .

قال ( ع ) : ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور ، لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ، ونظرٍ في الأفلاك ، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ ، رأى الكوكب ، وهو الزُّهْرَةُ في قولِ قتادة ، وقال السُّدِّيُّ : هو المشتري جانحاً إلى الغروب ، ( فلما أَفَلَ ) بزغ القمر ، وهو أول طلوعه ، فَسَرَى الليل أجْمَعُ ، فلما بزغَتِ الشمسُ ، زال ضوء القمرِ قبلها ، لانتشار الصباحِ ، وخَفِيَ نوره ، ودنا أيضاً مِنْ مغربه ، فسمى ذلك أفولاً ، لقربه من الأُفُولِ التامِّ ، على تجوُّز في التسمية ، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين ، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة ، كما أجمع أهل التفسير ، إلاَّ في هذه الليالي ، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر ، و( أَفَلَ ) ، في كلام العرب : معناه غاب ، وقيل : معناه ذَهَبَ ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ : أوَّلُ الطلوع ، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر ، لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار ، و{ يَهْدِنِي } : يرشدْنِي ، وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال : إن القصة في حالِ الصِّغَر ، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ ، كالأصنام وغيرها ، ولما أفَلَتِ الشمسُ ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به ، فظهرَتْ حُجَّته ، وقَوِيَ بذلك على منابذتهم ، والتبرِّي من إشراكهم ، وقوله : { إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } يؤيِّد قول من قال : إن القصة في حال الكِبر والتكليفِ .