قوله : { ونجيناه ولوطاً } من نمرود وقومه من أرض العراق { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } يعني الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ، ومنها بعث أكثر الأنبياء . وقال أبي بن كعب : سماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي هي ببيت المقدس .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن قتادة ، أن عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره ، فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه ، وبها كنزه من عباده .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الديري ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " . وقال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به . من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمرود وملئه وآمن به لوط ، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران ابن تارخ ، وهاران هو أخو إبراهيم وكان لهما أخ ثالث يقال له : ناخور بن تارخ ، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه وهي سارة بنت هاران الأكبر ، عم إبراهيم فخرج من كوثى من أرض العراق مهاجراً إلى ربه ، ومعه لوط وسارة ، كما قال الله تعالى : { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، وأقرب ، فبعثه الله نبياً فذلك قوله تعالى : { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } .
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا ْ } وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل : إنه ابن أخيه ، فنجاه الله ، وهاجر { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ْ } أي : الشام ، فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق ، { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ْ } ومن بركة الشام ، أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها ، وأن الله اختارها ، مهاجرا لخليله ، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة ، وهو بيت المقدس .
يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم ، أنه سلمه الله من نار قومه ، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرًا إلى بلاد الشام ، إلى الأرض المقدسة منها ، كما قال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } قال : الشام ، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة .
وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، [ وكان يقال للشام : عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشام ]{[19706]} وما نقص من الشام زيد في فلسطين . وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وبها يهلك المسيح الدجال .
وقال كعب الأحبار في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } إلى حران .
وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشام ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها .
رواه ابن جرير ، وهو غريب [ والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها مهاجرًا من بلاده ]{[19707]} .
وقال العَوفي ، عن ابن عباس : إلى مكة ؛ ألا تسمع قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] .
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد . وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد ( الكلدان ) إلى أرض ( فلسطين ) وهي بلاد ( كنعان ) .
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين . واستصحب إبراهيم معه لوطاً ابنَ أخيه ( هَاران ) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم . وكانت سارة امرأةُ إبراهيم معهما ، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته .
وانتصب { لوطاً } على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطاً لم يكن مهدداً من الأعداء لذاته فيتعلّقَ به فعل الإنجاء .
وضمن { نجيْناه } معنى الإخراج فعدّي بحرف ( إلى ) .
والأرض : هي أرض فلسطين . ووصفها الله بأنه باركها للعالَمين ، أي للناس ، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن . وورد في التوراة : أن الله قال لإبراهيم : إنها تفيض لبناً وعسلاً .
والبركة : وفرة الخير والنفععِ . وتقدم في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في [ سورة آل عمران : 96 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرودٍ وقومِهِ من أرض العراق، إلى الأرْضِ التي "بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ "وهي أرض الشأم، فارق صلوات الله عليه قومه ودينهم وهاجر إلى الشأم.
وهذه القصة التي قصّ الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ومخالفتهم دينه، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم، ومسل بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يَلْقَى من قومه من المكروه والأذى، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجّى أباه إبراهيم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجّى إبراهيم ولوطا إليها ووصفه أنه بارك فيها للعالمين؛ فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك...
وقال آخرون: بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى: "التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ"...
وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام وبها كان مُقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يُقِم بها ولم يتخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونجيناه ولوطا} دل هذا أن إبراهيم كان كالمشرف على الهلاك لأن لفظة النجاة لا تقال إلا في ما كان هنالك إشراف على الهلاك. وفيه أن لوطا كان معه، وإن كان إبراهيم هو الممتحن في ذلك، وهم كانوا يقصدون قصد إهلاك الرسل والأتباع جميعا.
{إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} قال الحسن: بركته لما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] كثيرة المياه والنبت ونحوه. وقال بعضهم: بركته سعته على أهلها. وقال بعضهم: بركته لأنها كانت مكان الأنبياء والرسل، وصارت مباركة بإبراهيم ولوطا، لما بهم ظهر الإسلام هنالك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في أنبيائه -عليهم السلام- أنه إذا نَجَّى منهم واحداً أشرك معه مَنْ كان مُسَاهِماً له في ضُرِّه ومُقَاساةِ مشقته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان). وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطاً ابنَ أخيه (هَاران) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأةُ إبراهيم معهما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد هزّت قصّة حريق إبراهيم (عليه السلام) ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، بحيث فقد نمرود معنوياته تماماً، لأنّه لم يعد قادراً على أن يُظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عُرف بين الناس بأنّه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم بكلّ إمكانياته وقدرته بمفرده، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلّم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيكون خطراً على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة، فلابدّ أن يخرج من تلك الأرض على أي حال. ومن جهة أُخرى، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته في الواقع في تلك البلاد، ووجّه ضربات ماحقة إلى هيكل وبنيان الشرك، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد،... فلابدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط وكان ابن أخ إبراهيم وزوجته سارة...